جرائم البورصة في قانون 14 نوفمبر 1994 والمجلةالجزائية
بقلم وليد بن صالحعلى غرار كافة ميادين الاقتصاد يلجأ المشرع أحيانا عدة للقانون الجزائي قصد فرض احترام التشريعات المنظمة للسوق المالية، فهو يأمل عبر النصوص الجزائية التي يصادق عليها في أن عددا كبيرا من الفاعلين في البورصة سيلتزمون بالقانون خوفا من العقوبات.
فالسوق المالية عالم يسوده نظريا القانون الجزائي فبالإضافة إلى الجرائم المنصوص عليها في المجلة الجزائية على غرار التحيل وخيانة المؤتمن صادق المشرع على جملة من النصوص الجزائية الخاصة بالسوق المالية. فمن جريمة استعمال معلومة ممتازة إلى جريمة ترويج معلومات زائفة أو مضللة بين العموم مرورا بجريمة القيام بمناورة يطول سرد قائمة جرائم البورصة.
إلا أن التجريم الخاص بالسوق المالية حديث بعض الشيء إذ يعود إلى سنة 1989 والقانون عدد 49-89 المؤرخ في 8 مارس 1989 المتعلق بالسوق المالية الذي أنشأ جرائم استعمال معلومة ممتازة وترويج معلومات زائفة أو مضللة بين العموم إضافة إلى جريمة القيام بمناورة.
إثر ذلك مثلت المصادقة على القانون عدد 94-117 المؤرخ في 14 نوفمبر 1994 والمتعلق بإعادة تنظيم السوق المالية فرصة لإعادة صياغة النصوص الحاملة لهذه الجرائم كما وقعتبمناسبة صياغة هذا القانون إضافة جريمة أخرى هي جريمة إفادة الغير بمعلومة ممتازة.
ومنذ ما يناهز العشر سنوات قام المشرع بإضافة ما لا يقل عن أربع جرائم اخرى من خلال القانون عدد 96-2005 المؤرخ في 18 أكتوبر 2005 المتعلق بتدعيم سلامة العلاقات المالية من أهمها جريمة اعتراض مهام مراقب أو مراقبي الحسابات وجريمة ممارسة نشاط التصرف في محافظ الأوراق المالية لفائدة الغير دون الحصول على ترخيص .
بالتالي فالمنظومة الخاصة بزجر الاخلالات بالتشاريع المنظمة للسوق المالية ليست شحيحة فترسانة الجرائم التي يحملها القانون التونسي لا تقل ضخامة عما هو موجود بالقوانين المقارنة.
إلا أن هذا الواقع النظري أين يتواجد القانون الجزائي بقوة يختلف تماما عن الواقع العملي للسوق المالية التونسية فالثغرات التي تعتري النصوص الحاملة لأهم هذه الجرائم والعقوبات الرحيمة التي تنص عليها إضافة إلى التطبيق المتراخي للمسؤولية الجزائية في هذا المجال تجعل من المنظومة الجزائية الخاصة بالسوق المالية منظومة مختلة فاقدة للتوازن والانسجام، منظومة لا تستطيع أن تحقق الفعالية الضرورية لتأمين سلامة وشفافية السوق(I).
إن هذا الخلل الذي يشوب المنظومة الخاصة بزجر جرائم البورصة يجرنا للحديث عن المجلة الجزائية إذ يجدر التساؤل عن مدى امكانية اللجوء إليها قصد زجر التصرفات الماسة من التشريع الخاص بالبورصة (II).
I – قانون 1994 : منظومة جزائية غير فعالة
تبان مظاهر اختلال المنظومة الخاصة بزجر جرائم البورصة بصفة جلية من خلال الفصل 81 من قانون 14 نوفمبر 1994.
هذا الفصل الذي يحمل نصوص تجريم أهم وأخطر جرائم البورصة أي استعمال معلومة ممتازة،ترويج معلومات زائفة أو مضللة بين العموم، القيام بمناورة وإفادة الغير بمعلومة ممتازة، ولد ميتا إذ لم يجد مجالا، على حد علمنا، للتطبيق.
من الوهلة الأولى من الممكن أن يثير هذا المعطى الواقعي الاستغراب فهل أن العاملين والمستثمرين في السوق المالية التونسية ملائكة أم تراهم من طينة هي غير تلك التي صنع منها نظرائهم في شتى بلدان العالم؟
إلا أن ظاهرة الإفلات من العقاب التي تميز البورصة التونسية يمكن أن تلقى تفسيرا في الغموضالذي تتميزبه صياغة هذا الفصل (أ) كما أن العقوبات الرحيمة التي ينص عليهامن شأنها أن تهدد جديافعالية ونجاعة زجر هذه الجرائم(ب).
أ- نصوص تجريم مختلة
السوق المالية السليمة وذاتالسمعة الجيدة هي سوق يعتبر فيها المستثمرون أن لديهم نفس المعلومات وأنه لا يمكن لأي مستثمر أن يستعمل معلومة سرية لإتمام عملية بالسوق فالمساواة في النفاذ للمعلومة تعتبر ركيزة من ركائز السوق وضمان لحسن سيره.
هذه الركيزة التي تعتمد عليها السوق مهددة بجريمتي استعمال معلومة ممتازة وإفادة الغير بمعلومة ممتازة إذ أن هاتين الجريمتين تمسان من المساواة في النفاذ للمعلومة وتخلان بقواعد السوق .
فزجر هاتين الجريمتين لا يجد تبريره في اعتبارات اقتصادية وإنما في أسباب اجتماعية وأخلاقية حيث ينظر إليهما كخرق لمنظومة أخلاقية خاصة إذ أن أغلب تشاريع الدول المتطورة تعتبرهما مسيئتين لحسن سير السوق المالية كما أن الهيئات التعديلية للأسواق تعتبر أنهما تمسان من سمعة السوق وجاذبيته وتحدان من ثقة المستثمرين وتمثلان عائقا حقيقيا أمام حسن سير أي سوق مالية .
بالتالي فان زجرهما يكتسي أهمية خاصة للمحافظة على صورة السوق المالية التونسية كما ان مكافحتهما من المفروض أن تكون في قلب اهتمامات المشرع والمحاكم التونسية.
إلا أنه في الواقع فإن النصوص الحاملة لهما، أي الفقرات1 و5 للفصل 81 من القانون عدد 94-117 المؤرخ في 14 نوفمبر 1994، تعاني من مجال تطبيق ضيق ومن عناصر غير محددة بدقة مما يجعل زجرهما الفعال مهددا بصفة جدية.
فقائمة الأشخاص المعنيين بجريمة استعمال معلومة ممتازة محدودة إذ تنص الفقرة الأولى من الفصل 81 على أن العقاب ينحصر في الأشخاص الذين يحصلون بمناسبة ممارسة مهنهم أو بمناسبة القيام بمهامهم على المعلومة الممتازة أي أنه وبقراءة عكسية لهذا النص يتبين لنا أنه لا يعاقب من يستعمل معلومة ممتازة تحصل عليها في إطار خاص.
وهو ما يعني أن المتحصل على المعلومة الممتازة في إطار صداقة أو من خلال التنصت أو التجسسبإمكانه استعمال هذه المعلومة دون خوف من ان يسلط عليه عقاب الفصل 81.
ثغرة مماثلة تعيق الزجر الفعال لجريمة إفادة الغير بمعلومة ممتازة إذ تنص الفقرة الخامسة من الفصل 81 على أنه يعاقب كل شخص يحصل بمناسبة ممارسة مهنه أو بمناسبة القيام بمهامه على معلومة داخلية تتعلق بوضعية مصدر للأوراق المالية بالمساهمة العامة أو بآفاق ورقة مالية أو أداة مالية موظفة عن طريق المساهمة العامة ويتولى إفادة الغير بها خارج الإطار العادي لمهنته أو لمهامه.
بالتالي فإن المتحصل على معلومة ممتازة في إطار خاص وليس إطار مهني بإمكانه أن يفيد بها من يريد دون أن يكون معرضا للعقوبات المنصوص عليها بهذا الفصل.
إضافة إلى ذلك فإن زجر هاتين الجريمتين يصطدم بغموض مفهوم المعلومة الممتازة حيث يحمل الفصل 81 من قانون 14 نوفمبر 1994، على غرار القانون الفرنسي ، وصفا عاما للمعلومة الممتازة.
فهذا الفصل يكتفي بالإشارة إلى موضوع المعلومة الممتازة كما يمكن على الأكثر استنتاج أن المعلومة الممتازة هي معلومة غير عامة(Non publique)إذ أن استعمال المعلومات مجرم إذا وقع "قبل ان تبلغ تلك المعلومات إلى علم العموم بالصبغ التي تشترطها القوانين والتراتيب" .
هذه الصياغة الضبابية من شأنها أن تعقد زجر استعمال المعلومة الممتازة حيث يصعب فيظلها تحديدهذا المفهوم الأساسيبالوضوحالمطلوبفيإطارالقانونالجزائيخاصة في غياب فقه أو فقه قضاء يكون قد تعرض للمسألة.
إلا أنه يمكن تجاوز هذا الغموض بالرجوع للفصل 51 من ترتيب هيئة السوق المالية المتعلق بالمساهمة العامة الذي يحدد بأكثر دقة ما المقصود بالمعلومة الممتازة أي "كل معلومة محددة لم يقع تعميمها تتعلق بمصدر أو عدة مصدرين وبورقة أو عدة أوراق مالية وبأداة أو عدة أدوات مالية يمكن أن يكون لتعميمها تأثير على سعر الورقة أو الأداة المالية المعينة".
ولا تقف قائمة الثغرات عند هاتين الجريمتينفبالنسبة لجـريمة القيام بمناورة حيث يكون عرضة للعقوبات كل شخص يتولى عمدا بصفة مباشرة او بواسطة الغير القيام او محاولة القيام بمناورة في سوق ورقة مالية أو أداة مالية موظفة عن طريق المساهمة العامة وتهدف إلى الإخلال بالسير العادي للسوق أو إلى إيقاع الغير في الخطأ.
فإن زجرها الفعال يصطدم بغموض مفهوم المناورة إذ لم يحدد المشرع ما المقصود بالمناورة.
ويتسبب هذا الغموض فيرواج ممارسات مشكوك في قانونيتها في البورصة التونسية التي تشهد بصفة منتظمة عمليات بيع وشراء زائفة تهدف إلى جعل سعر سهم شركة يرتفع إلى سعر معين قصد تسهيل بيع بالجملة (transaction de bloc)لمجموعة من الأسهم يكون سعرها أقل من السعر المتفق عليه مع البائع .
هذه الممارسات التي تجر عددا من المساهمين الصغار للخطأ وتحثهم على شراء أسهم بسعر لا يتوافق بالضرورة مع قيمتها الحقيقية يعتبرها عدد من الفاعلين في البورصة قانونية في حين أنهلا شك في انها تمثل جريمة المناورة إذا وقع القيام بها في أسواق أخرى خارجية.
من المؤكد أنوضوحاأكبرفيتحديدالمفاهيممنقبلالمشرعكانليعفينامنهذاالترددالذييضربمصالحالمساهمينالصغاروبسمعةالسوقالماليةالتونسية.
ب- عقوباتغير رادعة
إنأكثر مايثيرالاستغرابفي إطار زجر الجرائم المعنية بهذه الدراسة هوالعقوباتالرحيمةالتيأتىبهاالفصل 81 إذأنالجرائمالتييحملهاتعاقببخطايايتراوحمقدارهابين 1.000 و15.000 دينار.
فاستعمال معلومة ممتازة يعاقب بخطية تتراوح من 1.000 إلى 10.000 دينارإلا أنه وفي صورة تحقيق أرباح يمكن الترفيع في مبلغ الخطية إلى خمسة أضعاف الأرباح المحققة، ولا يمكن أن ينزل مبلغ الخطية المحكوم بها دون مقدار هذه الأرباح.
ويعتبرالقانونالتونسيمنأقلالقوانينصرامةفيالعالمفيهذاالمجالفعلىسبيلالمثاليعاقبالقانونالفرنسيجريمةاستعمالالمعلومة الممتازةبالسجنسنتينوبخطية بمليونوخمسمائة ألفأورو فيحينأنالقانونالأمريكييعاقبنفسالجريمةبعقوباتيمكنأنتصلإلى 20 سنةسجناإضافةإلىخطايامرتفعةللغاية .
فيالأردنعقوبة استعمال معلومة ممتازةقدتصلإلىثلاثسنواتسجنو100.000 دينارخطيةإضافة إلى خطية أخرى مقدارها الأدنى ضعف الأرباح المحققة أو الخسارة المتجنبةومقدارها الأقصى خمس أضعاف الأرباح المحققة أو الخسارة المتجنبة .
فيالمغربنفسالجريمةيعاقبعليهابعقوبةتتراوحبين 3 أشهروسنتينسجنامعخطية يمكن تصل إلى خمس أضعاف الأرباح المحققة دون أن يقل مقدارها عن 200.000 درهم أو إحدى العقوبتين .
أما فيما يخص جريمة الإفادة بمعلومة ممتازة فإن العقوبة التي ينص عليها قانون 1994 ليست أكثر شدة إذ يكتفي المشرع بخطية يتراوح مقدارها بين 1.500 و 15.000 دينار و هي عقوبة أقل شدة من العقوبات التي تنص عليها التشاريع المقارنة.
ففي فرنسا نفس الجريمة يعاقب عليها بسنة سجنا إضافة إلى 150.000 اورو خطية مع إمكانية أن تصل الخطية إلى عشر أضعاف الأرباح المحققة أما في المغرب فتعاقب هذه الجريمة بعقوبة تتراوح بين ثلاث أشهر وسنة سجن إضافة إلى خطية تصل إلى 100.000 درهم.
نفس المعاينة صالحة بالنسبة لجريمتي القيام بمناورة وترويجمعلومات زائفة أو مضللة بين العموم التي تعاقب بخطية يتراوح مقدارها بين 1.000 و10.000 دينار في حين أن مرتكب هاتين الجريمتين يمكنه أن يغنم من ارتكابها أرباحا أكبر بكثيركما أن هذه الجرائم من شأنها أن تحقق اضرارا جسيمة بالشركات المدرجة بالبورصة أو توقع في الخطأ المدخرين.
وهو ما جعل القانون الفرنسي يعاقب جريمة المناورة وجريمةترويجمعلومات زائفة أو مضللة بين العموم بسنتين سجن وخطية بـ1.500.000 اورو كما يمكن أن ترفع الخطية إلى عشر أضعاف الأرباح المحققة دون أن يمكن أن يخفض مقدارها إلى أقل من مبلغ الأرباح.
في المغرب تعاقب هاتين الجريمتين بالسجن لمدة تتراوح بين 3 أشهر وسنتين وخطية يتراوح مقدارها بين 10.000 و500.000 درهم أما في الأردن يصل العقاب إلى ثلاث سنوات سجن مع الخطية .
حقيقةيبدومنالواضحأنالمنظومةالخاصةبزجرجرائمالبورصةلايمكنأنتكونفعالة،لايمكنانتحققشفافيةالسوقالمالية،لايمكنأنتضمنحمايةناجعةلصغارالمساهمينولا يمكنأنتستعيدالثقةالمفقودةللمستثمرين.
فهيوبالنظرللثغراتالمتعددةالتيتشوبهاواعتبارالغيابالصرامةعنالعقوباتالتيتحملهالايمكنلهاأنتحققالردعالكافيالذيمنشأنهأنيلزمالناسعلىاحترامالتشاريعالمنظمةللسوقالمالية.
فالسمات الأساسية لهذه المنظومة غياب الفعالية والنجاعة، غياب القدرة على ردع المخالفين إضافة إلى أنها منظومة تكرس ظاهرة الافلات من العقاب حيث اختارت المنظومة التونسية منحى مغايرا تماما للتشاريع المقارنة التي تعتبر أن حماية شفافية وسلامة وضمان حسن سير السوق المالية يمر بالضرورة عبر منظومة جزائية فعالة تردع الفاعلين في السوق.
في فرنسا مثلا ازدادت التشاريع المنظمة للبورصة صرامة بمرور السنين فمنذ الجرائم الأولى التي وضعها القانون عدد 70-1203 المؤرخ في 23 ديسمبر 1970 لم تتوقف المنظومة الجزائية الخاصة بالبورصة عن التوسع كما تصاعدت شدتها مسايرة للتطور الكبير للمبادلات المنجزة عبر الأسواق المالية الفرنسية واستجابة لتطلعات المستثمرين .
هذاالخلليجرناإلىالحديثعنالمجلةالجزائيةفهليمكناللجوءإليهاوتطبيقهاعوضاعنقانون 94 قصدتجاوزالهناتالتيتعتريه؟
II – المجلةالجزائية:تلاؤم غير مؤكد مع واقع البورصة
أمام الخلل الذي يميز المنظومة الخاصة بزجر جرائم البورصة وبالنظر للأهمية التي يكتسيها تحقيق زجر فعال للخروقات التي يمكن أن تمس من سلامة وشفافية السوق المالية يجدر التساؤل حول إمكانية الرجوع للمجلة الجزائية علها تمكننا من تحقيق ما لا تستطيع أن تحققه المنظومة الحديثة الخاصة بالسوق المالية مننجاعة وفعالية في عقاب الممارسات المخلة بالقوانين المنظمة للبورصة.
إلا أن دراسة مقتضيات المجلة الجزائية توحيبأنه من الصعب تطبيق نصوص مجلة تم سنها منذ ما يناهز مئة سنة على مجال سريع التحول، على واقع متغير وعمليات شديدة التعقيد (أ) كما أن المجلة جزائية تعاني بدورها من نقص يجعلها لا تتلاءم مع خروقات التشاريع المنظمة للسوق المالية فهي لم تكرس المسؤولية الجزائية للذوات المعنوية (ب).
أ- نصوص صعبة التطبيق
إن دراسة مقتضيات المجلة الجزائية يحيلنا على عدد من النصوص التي تتشابه في مضمونها مع الفصل 81 من قانون 1994.
أولا وبالنسبة لجريمة المناورة يمكن المقاربة بينها وجريمة الفصل 291 من المجلة الجزائية الذي يعاقب " كل من استعمل اسما مدلسا أو صفات غير صحيحة أو التجأ للحيل والخزعبلات التي من شأنها إقناع الغير بوجود مشاريع لا أصل لها في الحقيقة أو نفوذ أو اعتماد وهمي أو التي من شأنها بعث الأمل في نجاح غرض من الأغراض أو الخوف من الإخفاق فيه أو وقوع إصابة أو غيرها من الحوادث الخيالية ويكون قد تسلّم أو حاول أن يتسلّم أموالا أو منقولات أو رقاعا أو ممتلكات أو أوراقا مالية أو وعودا أو وصولات أو إبراءات واختلس بإحدى هذه الوسائل أو حاول أن يختلس الكل أو البعض من مال الغير".
فالتحيل جريمة يصعب عمليا التمييز بينها وبين جريمة المناورة ففي كلتا الحالتين نحن أمام مناورات وحيل تهدف إلى التحصيل على مال بصفة غير مشروعةولكن في حين يكتفي الفصل 81 بعقوبة الخطية ينص الفصل 291 على عقوبة بخمس سنوات سجنا مع خطيةقدرهاألفانوأربعمائةدينار.
المقاربة ممكنة أيضا بين جريمة المناورة وأحكام الفصل 139 الذي يعاقب بالسجن من شهرين إلى عامين وبخطية مالية كل من يحدث أو يحاول أن يحدث مباشرة أو بواسطة ترفيعا أو تخفيضا مصطنعا في أسعار الأشياء العامة أو الخاصة.
تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن المشرعحدد بدقة صلب هذا الفصلالوسائلالمجرمةللتـأثير على الأسعار وهي:
- بتعمدترويجأخبارغيرصحيحةأومشينةلدىالعمومأوتقديمعروضبـالسوقبهدفإدخالاضطرابعلىالأسعارأوتقديمعروضشراءبأسعارتفوقماطلبهالباعةأنفسهمأوبغيرهامنوسائلوطرقالخداعمهماكاننوعها.
-بممارسةأومحاولةممارسةتدخلفرديأوجماعيعلىالسوقبقصدالحصولعلىربحلايكوننتيجةقاعدةالعرضوالطلبالطبيعيين.
وبالتالي فبالرغم من أنه لم يوضع لينطبق في مجال البورصة والأسواق المالية فإن الفصل 139 أكثر دقة من الفصل 81 من قانون 94 الذي لم يحدد بوضوح مفهوم المناورةكما أنه أشد صرامة.
أما بالنسبة لجريمة ترويج معلومات زائفة أو مضللة بين العموم فإنه يمكن التفكير في تطبيق الفصل 284 من نفس المجلة الذي يعاقب بخمس سنوات سجن من اغتصب بإذاعة أخبار أو بنسبة أمور من شأنها الإضرار بالغير أموالا أو قيم فنحن أمام جريمتين تتماثلان في مضمونهما وموضوعهما وتختلفان جذريا في عقابهما .
من جهة أخرى وقصد زجر استعمال المعلومة الممتازة يمكن لنا التفكير في تطبيق الفصل 96 من المجلة الجزائية وذلك لما تكون الدولة مساهمة في رأس مال الشركة التي تخصها المعلومة الممتازة وإذا كان مستعمل المعلومة الممتازة موظفا عموميا أو شبهه وفي هاته الحالة شتان بين عقاب الفصل 81 والعشر سنوات سجنا التي ينص عليها الفصل 96.
كما أنه بالنسبة لجريمة إفادة الغير بمعلومة ممتازة من الممكن أن نقارب مع أحكام فصلين من المجلة الجزائية ينص كلاهما على عقوبات أشد من قانون 1994 الذي يكتفي بعقوبة الخطية.
فمن ناحية أولى ينصالفصل 138على أنه"يعاقببالسجنمدةعامينوبخطيةقدرهاأربعمائةوثمانوندينارامديرالمصنعأوالنائبأوالمستخدمالذييفشيأسرارالصنعبهأويطلعالغيرعليها.والمحاولةموجبةللعقاب".
ومن ناحية ثانية يعاقب الفصل 254بالسجنمدةستةأشهروبخطيةقدرهامائةوعشروندينارا المؤتمنينعلىالأسرارنظرالحالتهمأولوظيفتهم،الذين يفشونهذهالأسرارفيغيرالصورالتيأوجبعليهمالقانونفيهاالقيامبالوشايةأورخّصلهمفيها .
إلا أن الرجوع إلى المجلة الجزائية لا يخلو من السلبيات وقد يكون مسببا للارتباك والاضطراب إذسنتعرض لإشكال كثير الحدوث في ميدان القانونالجزائيالاقتصادي.
فهل يجب علينا لتحديد النص المنطبق على الافعال المجرمة اعتماد الفصل 54 من المجلة الجزائية أي اعتماد العقاب المقرر للجريمة التي تستوجب أكبر عقاب وفي هذه الحالة يتم بالطبع تطبيق نصوص المجلة الجزائيةأم أنه يتعين علينا اعتماد القاعدةالمدنية "النص الخاص يقدم على النص العام"؟
حقيقة من الصعب تحديد موقف من هذه المشكل القانوني العويص والذي يخص عددا كبيرا من الجرائم الاقتصادية خصوصا امام تردد وتضارب فقه القضاء الذي يعتمد مواقف تختلف من قضية إلى أخرىوهو ما من شأنه أن يهدد نجاعة زجر هذه الجرائم.
ففي مرحلة أولى إعتبرت محكمة الإستئناف بالمنستير في قرارها الصادر في 17 ماي 1994أنه "وحيث وجب التذكير أن المشرع التونسي في إطار مواكبته لمتطلبات العصر وما تقتضيه طبيعة معاملات الشركات التجارية خص هذه الفئة بتشريع خاص مضمن بالمجلة التجارية وميزهم بنظام فريد كفيل بضمان حقوق الأطراف أو زجر من حاد عن القيام بواجباته في نطاق ذلك القانون وتعمد خرق ما يفرضه عليه التشريع بصورة تضر بغيره من الشركاء" .
إلاأنمحكمةالتعقيبلمتسايرهذاالتوجهإذاعتبرت أنه "يتضحأنأحكامالفصل 297 منالقانونالجنائيوأحكامالفصل 86 متلاتتعارضولاتؤولإلىتقديمأحدهماعلىالأخربلأنهاأحكامتتعلقبجريمتينمستقلتينوكانعلىالمحكمةتطبيققواعدتواردالجرائمالمنصوصعليهابالفصول 54, 55 و56 منالقانونالجنائي" .
إضافة إلى هذا التردد الذي قد يهدد نجاعة الزجر بالاعتماد على نصوص المجلة الجزائية فان تطبيقا ضيقا لنصوص هذه المجلة قد يجعلنا نعتبر أنها لا تنطبق على الخروقات للتشريعات المنظمة للسوق المالية من ذلك مثلا هل يمكن اعتبار تحقيق ربح في الأسواق المالية باستعمال مناورة اختلاسا لمال الغير على معنى الفصل 291 من المجلة الجزائية أو اعتبار المعلومة الممتازة مكسبا على معنى الفصل 96 من المجلة الجزائية ؟
كذلك الحال بالنسبة للفصل 138 ذو مجال التطبيق الضيق إذ يخص " مدير المصنع أو النائب أو المستخدم" وهو ما يحد من نجاعة استعماله في إطار البورصة. نفس المعاينة تنطبق على الفصل 254 إذ سيصطدم تطبيقه بمفهوم السر وهل أن هذا المفهوم يتطابق مع مفهوم المعلومة الممتازة أو أنه مفهوم أكثر ضيقا.
فصول أخرى من المجلة الجزائية قد تجد مجالاً للانطباق، على منوال الفصل 139 الذي تبدو عناصرهمتناسبة مع جريمة المناورة إلا أنه وبصفة عامة فإن كل هذه التساؤلات توحي بأن المجلة الجزائية في صيغتها الحالية ليست أداة مناسبة لتحقيق شفافية وسلامة السوق خاصة أنها لم تكرس المسؤولية الجزائية للذوات المعنوية.
ب – عدمتكريسالمسؤوليةالجزائيةللشخصالمعنوي
لا تخلو المجلة الجزائية بدورها من ثغرات ونقائص تجعل منها أداة غير مناسبة لتحقيق زجر فعال للجرائم المرتكبة في البورصة ذلك أنها وعلى غرار المنظومة الخاصة بزجر جرائم البورصة لا تعترف بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي.
فيمجالمثلمجالالبورصةفاعلوهالأساسيونمنشركاتمدرجةووسطاء فيالبورصةومستثمرين هممنالأشخاصالمعنويةلا شك في أن هذه الثغرة تمس من فاعلية وتحد من نجاعة العقوبات الجزائية المنطبقة في هذا المجال.
كما أن جرائم البورصة تكون في أحيان عديدة مرتكبة في صالح الشركة المدرجة في البورصة أو الشركة الوسيط في البورصة وبالتالي فإنه من غير المعقول أن تتمتع هذه الذوات بحصانة تكرس ظاهرة الافلات من العقاب وتهدد سلامة وشفافية البورصة التونسية .
إنه لم يعد من المقبول أن نواصل تجاهل الإجرام الذي يمكن أن يصدر عن الذوات المعنوية خصوصا أن تكريس المسؤولية الجزائية للذوات المعنوية يمثل مطلبا ملحا صادرا عن جزء هام من الفقهاء التونسيين .
إن هذا المطلب لا يعدو أن يكون إلا مطلباً شرعياً إذ يهدف إلى مكافحة الخطورة الإجرامية المتنامية لهذه الأشخاص عبر إمكانية معاقبتها جزائياً كما أن عوائق تكريس هذه المسؤولية ليست صعبة التجاوز سواء تعلق الأمر بالإجراءات الجزائية أو بشروط اعتمادها إذ بالإمكان الاستدلال بالقانون المقارن فالحلول المكرسة في فرنسا والمعتمدة في الجزائر يمكن أن تلقى تطبيقا في تونس.
الحل الأمثل قد يكون تكريس المسؤولية الجزائية للذوات المعنوية صلب المجلة الجزائية لأن كل تكريس جزئي لهذه المسؤولية لن يعدو أن يكون إلا حلا منقوصا إذ أنه من الممكن التفكير في إضافة فصل 36 مكرر صلب المجلة الجزائية يكون محرر كالتالي: "باستثناء الدولة، يكون الشخص المعنويمسؤولا جزائياً عن الجرائم التي ترتكب لحسابه من طرف أجهزته أو ممثليه".
إن مثل هذه الصياغة ستمكن من إدراج عدد هام من الذوات المعنوية كالشركات المدرجة بالبورصة ضمن نطاق المسؤولية الجزئية كما ستمكن من إسناد جميع الجرائم (بما فيها جرائم البورصة) لهذه الذوات.
كما أن إضافة فقرة ثانية تنص على أن " المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي لا تمنع مسائلة الشخص الطبيعي كفاعل أصلي أو كشريك في نفس الأفعال" ستمكن منتفادي من أن تستعمل المسؤولية الجزائية للذات المعنوية كمطية لإعفاء الشخص الطبيعي من العقاب .
بالتالي وبالنظر لما تقدم فإن اللجوء للمجلة الجزائية في صيغتها الحالية قد لا يمثل حلا ناجعا يمكن من زجر فعال لخرقالتشريعات المالية لأن هكذا زجر يستوجب نصوصا دقيقة، حديثة، صارمة ورادعة.
في الأخير نجد أنفسنا أمام تساءلأساسي:أمام هذه الثغرات أمام غياب الإرادة على عقاب من يخرق التشريعات المنظمة للسوق المالية هل من مستقبل للعقوبات الجزائية في هذا المجال؟
ألا يتعين على القاضي الجزائي الذي لا يملك لا المعرفة و لا التكوين اللازم لمراقبة جرائم تتميز بالتعقيد و تستوجب معارف تقنية التخلي عن هذا المجال ؟
ألا يتعين على هذا القاضي الذي يلجأ بصفة آلية لآراء الخبراء لما يتعلق الأمر بجرائم اقتصادية معقدة التخلي عن سلطاته لفائدة هيئة السوق المالية التي من المفروض أنها تمتلك القدرات المادية و البشرية و التخصص اللازمين لمكافحة الجرائم التي تمس من السوق المالية ؟
قطعا لا فالعقوبات الجزائية هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق ردع حقيقي لمن يفكر في خرق التشريعات المنظمة للسوق المالية خاصة في الوقت الحالي الذي يعاني فيه عمل هيئة السوق المالية من صعوبات و هنات لا تقل خطورة في غياب نصوص دقيقة و اجراءات ناجعة تمكن من عقاب حقيقي للمخالفين للتشاريع المنظمة للسوق المالية.
لا مفر بالتالي من مراجعة شاملة للنصوص الحاملة لجرائم البورصة في إطار منظومة خاصة إذا أردنا ان يسترجع القانون الجزائي دوره ليكون حاميا لشفافية وسلامة السوق المالية وضامنا لحسن سيرها.