هل تعتبر الذبذبات والموجات التي تتحرك وتتدفق عبر أسلاك الإتصال الهاتفي خدمة؟
فعلا لكلا الصديقين الحق في التمسك برأيه ناهيك و أن الإشكال تباينت حوله الآراء الفقهية خاصة عند تطرق العمل القضائي إلى سرقة تلك الذبذبات و ذلك بقطع الطريق على المنتفع بها الأصلي و تحويلها إلى غير وجهتها و بدون مقابل.
و كان النقاش حول ما إذا كانت تلك الذبذبات تعد منقولا ( بضاعة) أو إنتفاعا ( خدمة) ناهيك و أن المشرع صلب الفصل 258 من المجلة الجزائية التونسية أكد التفرقة بين إختلاس المنقولات و إختلاس الإنتفاع و بذلك نآى بعيدا على الإشكال القانوني الذي طرح لدى التشريع الفرنسي متخذا تعريفا موسعا للسرقة.
و حيث حذا المشرع الفرنسي حذو نظيره التونسي بتنقيح المجلة الجزائية الجديدة سنة 1992 و ألحق به سرقة الكهرباء بالفصل 311 ثانيا و هو ما يعني أن الكهرباء ليس منقولا و غير متماثلا للبضاعة أو السلع.
و النقاش بلغ مداه في البعض التشاريع العربية كالقانون المصري فقد أثيرت مشكلة الخط التليفوني ومدي جواز اعتباره منقولا ، وبالتالي خضوع سرقته لأحكام قانون العقوبات ، بسبب الطبيعة الخاصة لخط التليفون ، وبداهة لا يقصد بالخط التليفوني ذلك السلك الممدود بين جهاز التليفون وسنترال الخدمة ، بل المقصود تحديدا هي الذبذبات والموجات التي تتحرك وتتدفق عبر تلك الأسلاك ، فالسلك الممتد من جهاز التليفون إلى وحدة الاتصال أو السنترال هو ولا شك منقول وفقا لأحكام القانون المدني(1) ، أما الذبذبات والموجات التي تتحرك وتتدفق عبر هذه الأسلاك حاملة الرسالة الصوتية أو الرسالة المكتوبة ( الفاكس ) أو الرسالة المرئية ( الإنترنت ) فكيف يمكن وصفها بالمنقول أو عدها منقولا.
- وإزاء ذلك انقسم إلى رأيين:
الرأي الأول :- يري أن تلك الذبذبات والموجات لا تعد منقولا لعدم توافر شروط وصفات المنقول بها ، وبالتالي لا يمكن أن يعد الاستيلاء عليها اختلاسا مكونا لجريمة سرقة.
الرأي الثاني :- ويري أن تلك الذبذبات والموجات تعد منقولا وبالتالي يمكن اختلاسها وسرقتها ، فتلك الذبذبات والموجات مال منقول ويجب أن يخضع مختلسه لقواعد وأحكام جريمة السرقة الواردة بقانون العقوبات ، فتلك الذبذبات والموجات قابلة للتملك والنقل والحيازة وأن كانت تقتضي فى تملكها ونقلها وحيازتها وسائل أو طرق خاصة غير معتادة أو غير مألوفة مع المفهوم التقليدي للمنقول.
قضاء النقض المصري
استقر قضاء النقض على اعتبار سرقة الخط التليفوني بما يعنيه من ذبذبات وموجات مترددة جريمة سرقة ، واعتبر قضاء النقض تلك الموجات والذبذبات منقولا وفقا لأحكام القانون المدني ومن ذلك.
( السرقة قانونا ، هى اختلاس مال منقول مملوك للغير ، والمنقول فى هذا المقام هو كل ما له قيمة مالية ، ممكن تملكه وحيازته ونقله بصرف النظر عن قيمته )
[ نقض جنائي 2594 / 69 ق جلسة 4/2/2000 – غير منشور ]
( الخط التليفوني منقول قابل للتملك والحيازة والنقل وبالتالي للسرقة ، ولذلك يعتبر سارقا من يختلس الخط التليفوني بمد سلك إلى الكابينة الفرعية وأجرى عددا من المكالمات إضرارا بالمشترك المجني عليه )
[ نقض جنائي 1155 / 69 ق جلسة 2/1/2000 – غير منشور ]
( المنقول الذي تتحقق باختلاسه جريمة السرقة هو كل ما له قيمة مالية ويمكن نقله وحيازته وتملكه )
[ نقض جنائي 4459 / 68 ق جلسة 2/1/1999 ]
( من الثابت أن وصف المال لا يقتصر على ما كان جسما متحيزا قابلا للوزن طبقا للنظريات الطبيعية ، بل يتناول كل شيء مقوم قابل للتملك والحيازة والنقل من مكان إلى أخر ، والخط التليفوني وهو ما تتوافر فيه هذه الخصائص من الأموال المنقولة المعاقب على سرقتها )
[ نقض جنائي 2591 / 67 ق جلسة 4/3/1998 ]
( ومن حيث أن مبني الوجه الأول من الطعن أن المكالمات التليفونية المنسوب إلى الطاعن اختلاسها ليست من الأشياء المادية التي يمكن أن تكون محلا للسرقة ، وعليه ا يكون عقاب على هذا الفعل مع فرض صحته . ومن حيث أنه كان يمكن للتمسك بهذا الدفع محل لو أن الشارع قد بكلمة منقول التي أوردها بالمادة 311 من قانون العقوبات ما كان جسما متحيزا قابلا للوزن بحسب نظريات علم الطبيعة ، ومن حيث أن علة العقاب على السرقة ومنع الإخلال بأحكام القانون المدني التي سنت طرف التعامل بالأموال وكيفية تداولها على الوجه المشروع فالواجب إذا الرجوع إلى هذا القانون لمعرفة المعني الموضوع للأموال المنقولة المدني – هو كل شئ ذي قيمة مالية يمكن تمله وحيازته ونقله وهذه الخصائص متوافرة فى المكالمة التليفونية إذ للموجات والذبذبات قيمة مالية ويمكن ضبطها وحيازتها ونقلها بالوسائل من حيز إلى أخر )
[ نقض جنائي 2594 / 65 ق جلسة 2/2/1996 ]
و بالتالي فإن المشرع التونسي قد ميز بين سرقة المنقول و سرقة الإنتفاع الذي يقع إسداءه عبر قنوات و ذبذبات و أسلاك إلا أنه إتحد مع المشرع الفرنسي على عدم إمكانية سرقة الخدمة بالمفهوم التقليدي إذ لا يستساغ أن يسرق شخص خدمات محام أو طبيب أو معلم أو غيره بل يمكن أن تصبح موضع تحيل لا سرقة لأن فيصل التفرقة بين التحيل و السرقة هو تسليم مال الغير طوعا أو كرها.
و أعتقد أن القول من أن الذبذبات سلعة أو خدمة بالمفهوم التقليدي به درجة من الخطأ اللفظي و الإستطلاحي.
و مع ذلك فقد باتت أغلب شركات توزيع تلك المنافع يستعملون كلمة إسداء خدمة الكهرباء أو الهاتف أو الربط الإرتزياني ربما لأن الإتصال بهذه المنفعة و إيصالها إلى المستفيد يتطلب إسداء عدة خدمات ضرورية كالصيانة و التعهد و المراقبة فالنزل لا يقدم بضاعة و أنما يسدي خدمات على الرغم من أنه يقدم وجبات طعام و شراب و غيره.
على أية حال فإن خطوط الهاتف أي الذبذبات لا تعد منقولا أو بضاعة أو سلعة كما لا أعتقد أنها خدمة في حد ذاتها إلا متى تم إيصالها إلى المنتفع فباتت "خدمة" بالتركيز على عملية الربط.
و مهما يكن من أمر، فإنه حري بالرجوع إلى مقصد المشرع عند إصداره لمجلة الإلتزامات و العقود لأني مقتنع أنه لو كان الهاتف منتشرا بهذا الشكل لما أعتمد أجل السقوط القصير بـ365 يوما.
كما لا بد من الإشارة أيضا أن فواتير الهاتف لا تقتصر على إسداء الخدمات بل تتعلق بديون الدولة و التي تسقط بدورها بأجل أقل من 15 عاما مثل tvaو الأتاوات و المعاليم الأخرى ( التانبر الجبائي) و طبقا للفصل 404 من م إ ع تسقط بخمسة سنوات و حسب مجلة الحقوق و الإجراءات الجبائية فهي تسقط بعشرة أعوام.
و بالتالي فإن تساؤل صديقنا رؤوف يثير عدة إشكاليات قانونية و تمسك أحدنا بموقفه لا يعد سفسطة لأن كل رأي في جزئه صحيح و لا يمكن حسم المسألة فقط في تحديد طبيعة الربط بالهاتف و لا بد من المحكمة أن تضطلع بدور إيجابي و ذلك بتفعيل دور القاضي في تأويل النصوص القانونية و تطويعها و تطويرها دون الخروج عن مقصد المشرع.
le rôle créatif du juge" ".
مع الشكر للجميع و إلى اللقاء.