حسب محكمة الاستئناف بتونس، أحكام دستور1 جوان 1959 الضامنة للحقوق والحريات الأساسية مازالت نافذة
إبراهيم البرتاجي نشر في الصباح يوم 06 - 03 - 2013
- يتحفنا فقه القضاء من حين إلى آخر باجتهاد يجمع بين المتانة العلمية والجرأة، فيُدخلك في نشوة تجعلك تحمد الله صباحا مساء على أنّك سلكت نهج الدّراسات القانونية.
هذا ما يتبادرإلى الذّهن عند الاطّلاع على الحكم الاستعجالي الّذي أصدرته محكمة الاستئناف بتونس في 5 فيفري 2013 ذلك أنّ المحكمة أقرّت في هذا الحكم أنّ الفصل 10 من دستور1 جوان 1959 المتعلّق بحرّية التّنقّل ما زال نافذا، مثله مثل بقية الأحكام الضّامنة للحقوق والحرّيات الأساسية.
تعلّقت القضية بنزاع بين مجموعة من المواطنين ووكالة أسفارفي خصوص سفرلأداء مناسك العمرة تمّ إلغاؤه. وفي إطارهذا الخلاف حجزت الوكالة جوازات سفرالمعنيين بالأمر، وهوما دفعهم إلى القيام أمام القاضي الاستعجالي طالبين الإذن للوكالة بتسليمهم جوازات السّفر. لكن قاضي البداية رفض المطلب بحجّة مساسه بالأصل، وهو ما لم تؤيّده محكمة الاستئناف معتبرة أنّ طلب استرجاع الجوازات هو طلب منفصل عن النّزاع الأصلي الّذي يتمحورحول تنفيذ الاتّفاق الرّابط بين الوكالة وحرفائها. وتبعا لذلك وبما أنّ الأمركان محفوفا بالتّأكّد، أذنت بالتّسليم المطلوب
وقد رأت المحكمة عن صواب أنّ المسألة لها علاقة بحرّية أساسية وهي حرّية التّنقّل المضمونة بمقتضى العهد الدّولي للحقوق المدنية والسّياسية. وكان بإمكانها أن تكتفي بهذا الأساس القانوني. لكنّها فضّلت الاستناد كذلك وأوّلا إلى دستور1 جوان 1959، إذ جاء بحكمها:" حيث إنّ جوازالسّفرهو من مستلزمات حرّية التّنقّل المضمونة بموجب الفصل 10 من دستور1 جوان 1959 الّذي يبقى نافذا في أحكامه الضّامنة للحقوق والحرّيات الأساسية لكونها غيرقابلة بطبيعتها للإلغاء، وبموجب الفصل 12 من العهد الدّولي للحقوق المدنية والسّياسية..
عدم الاكتفاء بالاستناد إلى الفصل 12من العهد الدّولي للحقوق المدنية والسّياسية
صدر العهد الدّولي للحقوق المدنية والسّياسية عن الجمعية العامّة للأمم المتّحدة بتاريخ 16 ديسمبر1966، وقد انضمّت إليه تونس بمقتضى القانون المؤرّخ في 29 نوفمبر1968. ينصّ الفصل 12 من هذا العهد خاصّة على ما يلي: "كلّ شخص حرّ أن يغادرأيّ بلد من البلدان حتّى بلاده". ولا شكّ أنّ هذا النّصّ يعتبرأساسا سليما وكافيا لمناقشة مسألة حجز الجوازات في ضوء ما جاء في قانون 14 ماي 1975 المتعلّق بجوازات السّفرووثائق السّفر. فهوأساس سليم لا فقط لأنّ الأمريتعلّق بنصّ ينتمي للمنظومة القانونية التّونسية، وإنّما أيضا لأنّ حرّية التّنقّل الّتي يكرّسها تبقى نظرية إلى حدّ كبي في غياب إمكانبة الحصول على جواز سفرأو الاحتفاظ به. وهونصّ كاف باعتباره نافذا؛ ونظرا لعلويته تجاه الطّرفين المتعاقدين وتجاه القاضي، لكنّ المحكمة ارتأت أن لا تكتفي بهذا السّند والحال أنّ الاكتفاء به يمثّل وضعية مريحة تمكّن من الوصول إلى الهدف المنشود بأقلّ التّكاليف. ماذا سيقال عنها إذا وقفت عند ذلك الحدّ؟ سيقال إنّ بلدها لا دستورله ولا توجد به حقوق دستورية، وأنّه من حسن حظّها أن وجدت نصّا دوليا أخرجها من المأزق. كما سيقال إنّه ربّما في مناسبة أخرى، لن تجد المحكمة نصّا دوليا تستند إليه لحماية المتقاضي. وفي هذا السّياق، سيتمّ اتّهامها بأنّها تركت المتقاضين في العراء دون دستوريحمي حقوقهم.
في مثل هذه المناسبات، تتحرّك في المرء "شعرة سيّدنا عليّ" فيحلّق الفكرعاليا باحثا عن حماية وطنية ومقرّا العزم على إيجادها. وإذا كان الإحساس عميقا بوجود القاعدة، يصبح البحث عن مصدرها الشّكلي أمرا تقنيا محسوما مسبّقا. فالقانون هو منطق قبل كلّ شيء ولا معنى لمنظومة قانونية تنتفي فيها الكرامة.
قد يكون هذا بعض ما جال في ذهن قاضي الاستئناف بتونس وما دفعه إلى الاستناد أوّلا إلى دستور1959. الاستناد أوّلا إلى الفصل 10 من دستور1 جوان 1959
ينصّ الفصل 10 من دستورغرّة جوان 1959، وهونصّ لم يشهد أيّ تنقيح، على ما يلي : " لكلّ مواطن حرّية التّنقّل داخل البلاد وإلى خارجها واختيارمقرّ إقامته في حدودالقانون".
وقد استندت محكمة الاستئناف إلى هذا الفصل دون إطناب في شرح موقفها تجاهه، لكن بأسلوب يبيّن، من جهة، أنّ الحقوق والحرّيات الدّستورية لا يمكن إلغاؤها ومن جهة أخرى، أنّ الأحكام المتعلّقة بها مازالت نافذة بصفتها تلك أي كنصوص دستورية ولا فقط في خصوص الحقوق والحرّيات الّتي تقرّها.
لو اكتفت المحكمة بذكرعبارة "الفصل 10 من دستور1 جوان 1959" لقلنا أنّها وضعت النّصّ في إطاره التّاريخي وأنّها ذكرته للاستئناس به كمثال مأخوذ من التّاريخ الدّستوري الحديث. لكنّها أصرّت على أن تبيّن أنّ الأمريتعلّق بالحاضرالدّستوري أي بنصّ دستوري نافذ حاليا. ثمّ إنّها لم تستعمل لذلك عبارة "مازال نافذا" أو"لم يتمّ إلغاؤه". مثل هذه العبارات قد تفي بالحاجة، لكنّها لا تشفي الغليل بالنّسبة إلى قاض مصمّم على الغوص في الأعماق.
فالقول بأنّ الفصل 10 من الدّستورمازال نافذا يفتح الباب أمام نقاش تقني رأت المحكمة أن تسموَعنه. فبالإمكان هنا إبرازأنّ إنهاء العمل بدستور1959 الوارد بالفصل 27 من القانون التّأسيسي المتعلّق بالتّنظيم المؤقّت للسّلط العمومية لا يشمل الفصول المتعلّقة بالحقوق والحرّيات الأساسية، باعتبارأنّه ورد في نصّ لا يهتمّ سوى بالجانب المؤسّساتي المتمثّل في السّلط العمومية. لكن هذا الكلام قد يناقشه البعض. كما أنّه لا يقصي إمكانية الإقدام على إلغاء تلك الفصول بصفة صريحة. وهوبذلك لا يرتقي إلى ما تصبوإليه المحكمة.
كان إذن لا بدّ من التّسلّح بمزيد من الجرأة والارتقاء بمستوى النّقاش إلى أعلى درجاته. فجاء تبعا لذلك القول الفصل مبيّنا أنّ الأمريتعلّق بأحكام تبقى نافذة وهي"غيرقابلة بطبيعتها للإلغاء". وهوقول قد يصدم البعض، لكن لا يسعنا إلا أن نتذكّرفي شأنه الفيلسوف والأديب جون بول سارترعندما قال إنّه يقيس قوّة الفكرة بقوّة المقاومة الّتي تعترضها. ولعلّه يصحّ تنسيب الصّبغة الإطلاقية لكلام المحكمة بإبراز أنّ الأحكام المتحدّث عنها لا يمكن سوى تعويضها بأحكام لها نفس المرتبة وتضمن نفس الحقوق والحرّيات.
وقد يحاول البعض تلطيف الصّدمة بالقول أنّ ما فعلته المحكمة هوفي نهاية الأمراعتبارأنّ الحقوق والحرّيات الّتي أقرّها دستور1959 هي مبادئ عامّة تبقى قائمة حتّى وإن زالت النّصوص المتعلّقة بها. ومعروف في هذا الشّأن أنّ فقه القضاء كثيرا ما يقرّ مبادئ عامّة لا تستند إلى نصوص صريحة. لكن كلام المحكمة لم يتعلّق فقط بالمبادئ أي بالحقوق والحرّيات بل كذلك بالشّكل أي بالنّصوص الّتي تضمنُها وهوما يفهم من لفظة "أحكامه".
ويجوزتفسيرهذا الموقف من طرف المحكمة برغبتها في المحافظة على المرتبة الدّستورية لما جاء في دستور1959 من حقوق وحرّيات، باعتبارأنّ القاضي العادي سواء كان عدليا أوإداريا لا يمكنه تكريس مبادئ دستورية دون الاستناد إلى نصّ صريح. فمثل هذه المبادئ لا يمكن إقرارها إلّا من قبل القاضي الدّستوري.
إنّها في نهاية الأمرقنبلة وليست ككلّ القنابل، انفجرت في جناح من أجنحة محكمة الاستئناف بتونس فانتشرت شظايا شذاها لتملأ الدّنيا. وقد وعدتُ بفضح من فجّرها وها أنا فعلت. اللّهمّ فاشهد.
أستاذ تعليم عال في القانون العامّ.