أخلاقيات و سلوك القاضي
L'ETHIQUE ET LA CONDUITE DU MAGISTRAT
2007مقــدمة
القضاء مهنة شريفة قديمة حديثة، لا غنى عنها في أيّ مجتمع إنساني ، و قد أضفى عليها الناس قدرا كبيرا من المهابة و شيئا من القداسة ، نظرا لما يسند إلى القضاة من صلاحيات هامة و خطيرة . إذ أنهم يصدرون أحكاما قطعية لها أثر كبير على أمن المجتمعات و حياة الأفراد و معتقداتهم و حرياتهم و أعراضهم و كراماتهم و ممتلكاتهم و أموالهم ، و إلتزاماتهم و وواجباتهم.
و قد تطورت مهنة القضاء بمرور الزمن إلى أن أصبح القضاء إحدى سلطات الدولة الثلاث في معظم الدول الديمقراطية في وقتنا الحاضر.
و نظرا، لقدسية الواجبات الملقاة على كواهل القضاة و أهمية الإختصاصات المسندة إليهم ، و حلال المهام المنوطة بهم، و خطورة الصلاحيات التي يمارسونها و أثرها الكبير و المباشر على الفرد و المجتمع و الدولة ، فقد ترسخت في ضمائر الحريصين على حقوق الإنسان وسيادة القانون ، و مبادئ الحرية و العدالة و المساواة من كافة الأمم و الشعوب كثير من المبادئ و القيم و الأعراف و التقاليد التي يجب أن تحكم سلوك القضاة، و المزايا و الصفات و القدرات و المكنات التي يجب أن يتحلوا بها، ليحصلوا على ثقة الناس و إحترامهم و تقديرهم و ليطمئن الخصوم إلى أحكامهم و قراراتهم و يثقون بها و يقبلونها لأنهم وثقوا بكفاءاتهم و قدراتهم و عدلهم و نزاهتهم و أمانتهم و حيادهم و إستقلالهم.
قد تعممّت هذه القواعد و القيم و الأعراف و التقاليد و تعددت، و تطورت تبعا لتطور صلاحيات و إختصاصات السلطة القضائية و تعزيز إستقلالها عن السلطات الأخرى في الدولة.
و بما أن رؤساء أجهزة التفتيش القضائي في الدول العربية قد أجمعوا على ضرورة تطوير القضاء و تحديثه، و تعزيز إستقلاله و رفع كفاءته و قدراته و تحسين أدائه و إنجازاته و ذلك من خلال أن يلم كل قاض عربي بالصفات و المزايا و القدرات و المكنات التي يجب أن يتحلى بها ، و أن يحيط علما بالمبادئ و القيم و الأعراف و التقاليد التي يجب أن يلتزم بها و يطبقها ، لتكون دستورا له في سلوكه في حياته الخاصة و العامة و نبراسا يهتدي به في مسيرته القضائية و سلوكه الإجتماعي، و هذا ما قرره الإجتماع العاشر لرؤساء أجهزة التفتيش في الدول العربية من ضرورة إعداد وثيقة عربية حول أخلاقيات القاضي.
لذا و على ضوء ما سبق بيانه فإنهم إتجهوا إلى تشكيل لجنة خماسية مؤلفة من رؤساء التفتيش في كل من الأردن ، الإمارات ، الجزائر، لبنان و مصر لوضع وثيقة عربية إسترشادية حول أخلاقيات القاضي العربي مساهمة منهم في إضافة مدملك جديد لتعزيز العمل القضائي من حيت إستندت اللجنة في إعدادها لهذه الوثيقة ، بحضور ثلاثة من أعضائها و هم رؤساء التفتيش في كل من الأردن و الإمارات و لبنان ، إلى أمور ثلاث:
أولا: إن القواعد التي إحتوتها هي من عمل قضاة له مدلول مزدوج يعكس وعيا لمفهوم إستقلال القضاء من جهة و منه جهة ثانية إدراكا لمسؤولية القضاة الكبرى.
ثانيا : إعتبار خيار الوثيقة ملزم معنويا بإعتبارها وثيقة إسترشادية هو أفضل من خيار المبادئ و القواعد المقننة نظرا لسعة الموضوعات و طابعه الأخلاقي.
ثالثا: عدم تشكيل هذه الوثيقة قواعد لنظام تأديبي رادع و شامل.
إلا أن اللجنة توصي بضرورة إضفاء الطابع الإلزامي لمضامين القواعد التي أتت بها الوثيقة و ذلك عن الإسترشاد بها من قبل الدول العربية نظرا لما لهذا الموضوع من أهمية بالغة في أداء القاضي لرسالته.
كما و أن اللجنة تود في هذه المقدمة أن تبين بعض الصفات و الشروط العامة الواجب توافرها في القاضي تأكيدا منها على ما يجب أن يكون عليه القاضي و تماشيا مع ما هو معمول به عند إختيار القاضي في أي بلد عربي و يمكن تلخيص ذلك على النحو التالي و الذي يمكن أن يرد بعضا منها مفصلا في متن هذه الوثيقة وهي :
*وجب على القاضي أن يكون مخلصا لعمله مستقيما في سيرته و سلوكه و متمتعا بالكفاءة العلمية و ملما بثقافة فقهية و قانونية و قضائية و أن يسعى دائما إلى تنميتها و تحسينها.
*وجب على القاضي أن يتوخى نشدان العدالة و النزاهة كما سيرد في هذه الوثيقة و أن يكون عفيفا ، و قورا و أن يلتزم بسلوكه بكل ما يحفظ كرامته و يصون سمعته و سمعة القضاة و أن يبتعد عن كل ما يشينه و يسيء إليه أو يحط من قدر منصبه فالعدالة المطلوبة هو إعتدال الشخص في أقواله و أفعاله و صلاح دينه و أخلاقه و التحلي بالمروءة.
*وجب على القاضي أن يتمتع بالعفة و الورع من خلال أن يكون نزيها عن المطامع الدنية ورعا عن المطامع الردية شديدا قويا في ذات الله متيقظا متخوفا من غضب الله.
-وجب على القاضي أن يكون فطنا متيقظا من خلال تمتعه بذهن و قريحة يقظة و بوحدة العقل و الخاطر و بقوة الإدراك و كثرة التحرر و بصفاء الفكر و سلامته.
*وجب على القاضي أن يسوي بين الخصوم في خمس حالات : في الدخول عليهم ، في الجلوس بين يديه ، في الإقبال عليهما ، في الإستماع منهما ، في الحكم عليهما.
هذا و أن هذه الوثيقة قد تضمنت قواعد أساسية لأخلاقيات العمل القضائي و هي :
-الإستقلال
-التجرد
-النزاهة
-موجب التحفظ
-الشجاعة الأدبية
-التواضع
-الصدق و الشرف
-الأهلية و النشاط
و لقد قامت اللجنة بتحديد هذه القواعد مجتنبه تكرر الأفكار الذي من الطبيعي حصوله أحيانا نظرا لتقارب الآفاق بين بعض هذه القواعد...
و الله و لي التوفيق.
مضامين القواعد الثمانية
لأخلاقيات القاضي
القاعدة الأولى: الإستقلال
I-إستقلال السلطة القضائية
1-تعزيز قوانين السلطة القضية
2-تمتين الثقة بالسلطة القضائية
3-تعزيز مبدأ المشروعية و دولة القانون
II-إستقلال القاضي
4-رفض الضغوط و مواجهتها
5-معرفة الحق و تطبيقه
6-الحرية
القاعدة الثانية: التجرد و الحياد
1-المساواة
2-الحقائق التي تعزز الثقة بالقاضي
3-المبادرة التلقائية للتنحي عند توافر الأسباب
4-إحترام الفرقاء و حقوقهم في الدفاع
5-إدارة شؤونه الذاتية ومشاريعه المالية
6-مدم التنحي في حال ضياع أو عدم تحقيق العدالة
7-المراقبة الذاتية للسلوك
القاعدة الثالثة: النزاهة
1-نظافة اليد (هرم المزايا التي يتحلى بها القاضي)
2-التصدي للإغراءات
3-القاضي هو قدوة حسن لزملائه
4-التنبه و الحذر تجاه سلوك المتخاصمين و وكلائهم
القاعدة الرابعة : إلتزام التحفظ
1-الإنخراط في المجتمع بقواعده و أعرافه
2- القيود الذاتية الخاصة على القاضي
3-مراعاة موجبات الحياة الأسرية و الإجتماعية
4-الإمتناع عن المجاهرة بأرائه الشخصية و الدينية و السياسية
5- الموجبات الأخلاقية على جميع القرارات القضائية الصادرة عنه أو عن غيره
6-المحافظة على هيبته و شخصيته
7-المقتضيات المهنية
8-الأنشطة المسموحة للقاضي
9-حفظ سر المداولة ( المذاكرة)
القاعدة الخامسة : الشجاعة الأدبية
1-عدم التردد في إعلان الحق و الثقة بالنفس
2- سطوة الضمير و الحكمة
3-عمل القضاة الكبار و الفقهاء مرجعا للقاضي
4-المواجهة الشجاعة
القاعدة السادسة : التواضع
1-عدم الإستعلاء
2- البساطة و الإبتعاد عن الغرور و التكلف و الرياء
3-الهدوء
4-العلم القانوني بحر محيط و جب أن ينهل القاضي منه دائما (التواضع العلمي)
5-الإبتعاد عن المجاهرة بصفته القضائية قصد إستغلالها (عدم إستخدام النفوذ) أوالتصدر في تعامله مع الأخرين
القاعدة السابعة : الصدق و الشرف
1-الإلتزام بمضمون القسم الذي يحلفه
2- المضامين المشتركة للصدق و الشرف
3-موجبات الصدق
4-إجتناب التضليل و المغالاة في نشدان الحقيقة
5-القضاء رسالة مقدسة
6- القيود الذاتية الخاصة على القاضي
القاعدة الثامنة : الأهلية و النشاط
1-القاضي رجل علم
2- تنمية معارف القاضي العامة
3-البحث القانوني الدائم
4- بذل العناية اللازمة لإنجاز مهمته على أفضل وجه
5-أهمية النشاط في العمل القضائي
القاعدة الأولى: الإستقلال
L'indépendance - Independance
I-إستقلال السلطة القضائية
1-تعزيز قوانين السلطة القضائية
-إستقلال القضاء، و إستقلال القاضي، هما مفهومان متكاملان و لازمان لصيانة مبدأ الشرعية، و لإشاعة العدالة عن طريق تحقيق أمنية المتقاضين في تأمين الظرف المؤاتي للدعوى العادلة.
و لا مجال لتحقيق هذا الإستقلال إلا في ظل قوانين تعزز السلطة القضائية و تضمن تمايزها عن السلطتين التشريعة و التنفيذية في إطار التوازن و التعاون بين هذه السلطات و في ظل ثقافة قضائية تعكس يقين القاضي الذاهب إلى أن المصدر الأساسي لإستقلاله هو شعوره الذاتي بجسامة مهماته، و تصميمه على الإنعتاق من كل العوامل الضاغطة الرامية إلى التأثير على قناعاته بمعزل عن المعطيات الواقعية و القانونية التي يحملها ملف الدعوى.
2-تمتين الثقة بالسلطة القضائية
من شأن المبادئ الأساسية للسلوك القضائي ، المعالجة في هذه الوثيقة مع مبدأ الإستقلال ، أن تعزز كلها هذا المبدأ الأخير، لأنها تمتن ثقة الناس بالسلطة القضائية ، وبأعضائها ، و كل كرم على إستقلال القضاء يظل كلا مانظريا إن لم يترافق مع ثقة الناس بالقضاء، و هي ضرورية بدورها لصون مبدأ الإستقلال، على القاضي ، في ضوء ذلك ، ألا يكتفي بالقول إنه مستقل بل أن يعمل بطريقة توحي بأنه مستقل بالفعل.
3- تعزيز مبدأ المشروعية و دولة القانون:
-بات راسخا في المجتمعات السياسية المتطورة أن إستقلال القضاء هو علامة من علامات إنتماء المجتمع إلى الديمقراطية ، وإلى دولة القانون التي تنمح القاضي سلطات واسعة في سبيل تحقيق الأمان القانوني ، و تأكيد رفعة القانون و خضوع الناس لسلطانه على حد سواء.
-يكون القاضي مستقلا إزاء المجتمع بوجه عام، و إزاء فرقاء النزاع بوجه خاص، و يمتنع القاضي عن إقامة أي علاقة غير ملائمة مع السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية ، و يحمي نفسه من كل تأثير آت من جانبهما.
II-إستقلال القاضي
4-رفض الضغوط و مواجهتها
من الوجوه التطبيقية لمبدأ الإستقلال ، ممارسة القاضي مهماته معتمدا على تقديره المهني للوقائع و للأسباب القانونية الملائمة، و ذلك بمنأى عن أي تأثير خارجي ، أو تحريض، أو ضغط أو تهديد ، أو تدخل مباشر أو غير مباشر من قبل أي كان و لأي سبب كان.
إن بعض ما سيرد تحت مبدأ " الشجاعة الأدبية" قد يلتقي مع ما ذكر في الفقرة السابقة ذلك أن الشجاعة الأدبية هي وجه من وجوه ممارسة الإستقلال و يبقى أن لكل من مبدأي "الإستقلال " و " الشجاعة الأدبية" مداه الخاص ، مما حتم فصل كل منهما عن الأخر
5-معرفة الحق و تطبيقه:
-إستقلال القاضي إزاء زملائه القضاة ، سواء خلال المذاكرة التي تمنحه ملء الحرية في التعبير عن الرأي و في إعتماد الموقف المنسجم مع قناعاته أو لدى ممارسة مهماته القضائية في أي موقع آخر.
-كما على القاضي أن يلتمس احد من زملائه في قضائه، و أن يقبل إلتماسا من أحدهم في هذا الخصوص ، و أن يتذكر أنه و إياهم منذرون لتحقيق العدالة
-و يتوجب على القاضي أيضا-في حال حصول أي هيمنة أو تأثيرعليه من أحد زملائه القضاة في أعماله القضائية أو وقوعه تحت التأثير أو الهيمنة –إبلاغ رئيس المجلس القضائي بذلك.
6-الحرية:
-للإستقلال علاقة و ثيقة بمفهوم الحرية. و القاضي لا يكون مستقلا إلا إذا كان حرا. و يعني ذلك أنه لا يكفي أن يشعر بالحرية و حسب ، بل عليه أن يمارسها و القضاة الأحرار هم حماة الحرية و الديمقراطية في المجتمع.
إن طرح إستقلال القضاء غدا طرحا آنيا يوميا في عالم اليوم و لم تكن المسألة لتطرح بهذه الحرارة لولا الحاجة إلى التصدي لها بجدية ، و بالشكل الذي يعيد الثقة بالسلطة القضائية ، و يحول دون الإفساح في المجال أمام إساءة إستعمال الطرح لتحقيق مآرب خارجة عن حسن سير القضاء و تحقيق العدالة المنشودة.
القاعدة الثانية : التجرد و الحياد
L'impartialité - Impartiality
التجرد حالة ذهنية تعكس الصفاء النفسي لدى القاضي و تنم عن إستعداده لممارسة و ظائفه مجتنبا الأفكار المسبقة، و مستعدا للتحليل المجدي قبل إتخاذ القرار ، و مترفعا عن كل منفعة ، و رافضا أي مفاضلة بين المتقاضين و سائر من يحتكم بهم بحكم عمله.
و من المنطلق ، القاضي أن يتصرف تصرف الأب الصالح ، و الحكم المتنزه ، في كل قضية يعالجها و عله أن يميل عن أي هوى خاص ، و عن توقع أي مكسب فردي فدنياه تكون صغيرة إذا كان يسعى لنفسه، و تكون كبيرة إذا كان المسعى لتحقيق ما إنتدب له.
و الحياد هو وجه من وجوه التجرد. و هو "أن تؤاسي بين الناس في وجهك و مجلسك عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف عن عدلك " و ما من حق القاضي أن يمارس أي نوع من الإنتقائية في ما يتخذه من قرارات ما من حقه أن يختار على هواه ، أو على هوى سواه من المقربين أو النافدين أو الساعين أو المنتفعين، الطرف الذي يراه محظيا فيما هو بالواقع خاسر.
1-المساواة :
-إذا كان الحياد وجها من وجوه التجرد فالمساواة هي وجه من وجوه الحياد يتجلى تطبيق مبدأ المساواة عندما يدرك أن مجتمعه يضم أفراد و جماعات يفرق بينهم الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الجنسية أو العمر أو الجنس أو الحالة المدنية أوالقدرات الجسدية و النفسية، او منازع أخرى شتى... فيمتنع ، لدى ممارسة وظائفه القضائية ، سواء عن طريق الكلام أو التصرف او القرا ر، عدم الإنحياز إلى هذا دون ذلك منهم.
و يتجلى أيضا بمعاملة المحامين ، و اطراف النزاع ، و الشهود و المساعدين القضائيين، و الخبراء و سائر المعاونيين ، فضلا عن زملائه القضاة ، معاملة لا تمييز فيها بسبب الإختلافات المذكورة آنفا كما أنه لا يسمح لكل الخاضعين لسلطانه بممارسة التمييز ذاته. و يطال هذا المنع المحامين، إلا إذا كان ما يركزون عليه من ظواهر تمييز يدخل في صلب الدعوى و يؤمن حق الدفاع المشروع .
2-الحقائق التي تعزز الثقة بالقاضي:
-إن القاضي للناس قبل أن يكون لنفسه ، و لايستطيع أن يحقق رسالته خير تحقيق إلا إذا مارس و ظائفه القضائية بالطريقة التي تعززالثقة به، و تقلل أو تلاشى الفرص التي تدفع المتقاضين إلى طلب رده.
وعليه إدراك هذه الحقائق الثابتة : لا عدالة حيت لا تجرد ، و لا عدالة حيث نشدان المنفعة الشخصية، و لا عدالة حيث ينطلق القاضي من الأفكار المسبقة قبل تحليل الوقائع و تمحيص القانون، و لا عدالة حيث ليس بمستطاع كل مستحق لها أن يظفر لها.
3-المبادرة التلقائية للتنحي عن توافر الأسباب
-وجوب مبادرة القاضي إلى التنحي تلقائيا كلما توافرت الأسباب الملحوظة في القانون أو كلما إعتقد إعتقادا راسخا بأن هناك أسباب جدية تدعو أي مراقب منصف وعارف و غير متحيز إلى الشك بأن ثمة تضاربا بين ممارسة وظيفته القضائية و بين مصلحة الخاصة أو مصلحة من يرتبط و إياهم بروابط القرابة أو الود أو الشراكة.
4-إحترام الفرقاء و حقوقهم في الدفاع:
-على القاضي أن يحافظ على اللياقة في إجراءات المحاكمة و أن يكون صبورا و قورا لطيفا مع المتقاضين و المحامين و الشهود و الخبراء و غيرهم ممن يتعامل معهم في المحكمة ، وأن يطلب مسلكا مماثلا من المحامين و موظفي المحكمة و المتقاضيين.
-على القاضي إدارة التحقيقات بكل حازم ، و إحترام الفرقاء و حقوقهم في الدفاع،
وتجنب توجيه الملاحظات المؤدية إلى أصحاب العلاقة سواء أكان في مكتبه أم أثناء إنعقاد جلسات المحاكمة، بشكل يراعي أدبيات المهنة إذا كان من قضاة النيابة العامة الذين عليهم في كل حال أن يأخذوا بالإعتبار الحجج المناهضة للإتهام ، فهم يمثلون المجتمع ، و المجتمع لا تشفى من أعضائه إذا كانوا في مواقف حرجة.
إن المبادرة التلقائية إلى التنحي، لدى توافر الأسباب ، تختلف كليا عن ضرورة مواجهة الحرج بالمبادرة المعاكسة إلى إتخاذ القرار العادل.
5-إدارة شؤونه الذاتية و مشاريعه المالية:
-على القاضي ، في أي حال ، أن يدير شؤونه الذاتية و مشاريعه المالية بالشكل الذي يضيق إلى اقصى الحدود فرص طلب رده أو إحتمالات تنحيه التلقائي.
فينبغي عليه الإمتناع عن ممارسة أنشطة مالية و تجارية قد تضر بحياده و إنصافه أو تؤثر على ادائه لمهامه القضائية ، أو تعتمد على إستغلال لمنصبه القضائي أو تنطوي على إشتراكه في معاملات تجارية متكررة مع محامين أو أشخاص آخرين يحتمل مثولهم أمام المحكمة التي يعمل فيها.
6-عدم التنحي في حال ضياع الحق أو عدم تحقيق العدالة
يقتضي على القاضي ألا يبادر إلى التنحي إذا كان تنحيه هو بالذات ، أو تنحي أعضاء آخرين قبله من المحكمة التي يشترك في تأليفها ، يؤدي إلى التمنع عن إحقاق الحق، لأي سبب كان (إستحالة أو صعوبة تشكيل محكمة أخرى ، خشية ضياع الوقت المناسب لإصدار الحكم..)
و من التطبيقات العملية أيضا: الإمتناع عن أي تعليق يتناول مسار المحاكمة و من يوحي بأنه يحرم أحد أطراف النزاع من نتيجة عادلة يتوخاها، سواء جرى هذا التعليق في معرض المحاكمة أو خارجها.
7-المراقبة الذاتية للسلوك:
-سهر القاضي على مراقبة سلوكه مراقبة ذاتية صارمة ، داخل المحكمة و خارجها ، حتى يظفر بثقة و إحترام المتقاضين ووكلائهم ، و الجمهور . هذا مع العلم بأن التشكيك بسلوك القضاة يؤدي القضاء و برمته ، و يزعزع الثقة به.
في عودة إلى أبرز المواثيق و القوانين و الأعمال التي تطرقت إلى تنظيم المبادئ الأساسية للسلوك القضائي في المنظمات أو البلدان المهتمة بهذا الموضوع، يتبين أن قاعدة التجرد حظيت بإجماع المعنيين في هذا الميدان.
فهي ، كما سبق البيان، حجر الأساس في عمل القاضي، و صمام الأمان في الطريق إلى عدالة سوية، و شرط جوهري من شروط الإطمئنان إلى مسار المؤسسة القضائية.
القاعدة الثالثة: النزاهة
L'intégrité-integrity
1-نظافة اليد (هرم المزايا التي يتحلى بها القاضي):
-النزاهة هي الكلمة الأكثر تداولا بين الناس لنعت القاضي المتميز بالإستقامة و الأمانة و المناعة و الشفاعة، و بنظافة اليد التي لا يلوها إغراء (يمكن أن تتردد هذه النعوت أيضا لدى الحديث عن فضيلتي الصدق و الشرف لدى القاضي).
و هي تفهم بشكل أوضح إذا تمت مقابلتها ببعض نقائضها ، و من ذلك الإعوجاج و الفساد و الزيف و إساءة إستعمال الوظيفة القضائية بغية تحقيق المآرب المادية الخاصة.
-إن إكتساب ثقة الناس بالقضاة، تأتي النزاهة في رأس هرم المزايا التي يقتضي أن يتحلى بها القاضي . و من المأثور أن تحقيق العدالة غير كاف لوحده ، فلا بد من أن يرافقها شعور الناس بأنها تحققت و إقتناعهم بذلك. و لا عدالة حيث تتقلص الشفاعة و يتمدد الفساد.
2- التصدي للإغراءات :
-على القاضي بذل كل جهد ممكن حتى لا يكون سلوكه محلا لأي إرتياب، و لأي لوم من قبل مراقب منصف، عارف ، و غير متحيز. و من النادر أن يشك الناس بنزاهة القاضي الذي هو نزيه بالفعل ، و إذا حصل أن إتخذ أحدهم موقفا مغايرا ، فإن موقفه يظل معزولا، و إن خير رد عليه يكون بالمزيد من الإستقامة و تعزيز معطيات النزاهة.
-يمتنع على القاضي كذلك أن يلتمس مكافأة أو هذية أو منحة أو قرضا بسبب أمر متعلق بعمله القضائي. و ينطبق هذا الحظر على أفراد الأسرة التي يعيلها.
3-القاضي هو قدوة حسنة لزملائه:
-تلقى على عاتق القاضي، فضلا عن وجوب السهر على سلوكه الشخصي في هذا الصدد ، مهمة حث زملائه على إنتهاج النهج ذاته، و تشجيعهم على مواجهة التيارات المناهضة التي قد ترى في نزاهة القاضي ضربا من ضروب الضعف بالنظر إلى متطلبات الحياة اليومية . فنزاهة القضاء هي من نزاهة القاضي ، و العكس يصح أيضا.
4-التنبه و الحذر تجاه سلوك المتخاصمين و وكالائهم:
-إذا كان القاضي النزيه لا يتصرف على هذا المحو إنتظارا لمكافأة، فمن الطبيعي أن يخضع القاضي غير النزيه للجزاءات المنصوص عليها في القانون. و في تصور مرتبط بالمفهوم الأخلاقي للموضوع ، تستدعي النزاهة من القاضي أن يكون دائم التنبه و الحذر تجاه كل ربح أو نفع أو حظوة يحاول أن يوفرها له أحدهم، و تجاه كل من يسعى إلى تقريبه منه بسبب المهمات التي يمارسها ، كما يحصل أحيانا لدى دعوة القضاة إلى حضور المآدب أوالحفلات الخاصة دون أن يكونوا معنيين شخصيا بها، و ذلك من قبل بعض السياسيين أو رجال الأعمال أو الساعين إلى النفوذ.
إن موجب النزاهة يحظى، هو أيضا ، بإجماع المهتمين بسلامة العمل القضائي . و إن هذا العمل يفقد خصوصيته، و رسالته ، بل و ينهار، إذا غابت النزاهة عن أصحابه.
القاعدة الرابعة : إلتزام التحفظ
L'obligation de réserve – obligation of of restraint
يثير إلتزام التحفظ الوثيق الإتصال بطبيعة العمل القضائي و بشخصية القاضي و نظرة المجتمع إليه ، مجموعة من النقاط التي تستدعي تبصرا مستمرا لغربلتها و إختيار ما هو ملائم منها حيث أن لإ لتزام التحفظ أصولا أخرى ضاربة في عمق مفهوم القضاء، و لازمة لحسن ممارسته، و ممهدة للوصول إلى عدالة سوية يكون لشخص القاضي الدور البين في إرسائها.
1-الإنخراط في المجتمع بقواعده و أعرافه:
-ما من شك في أن المغالاة في الإنطواء و إلتزمت في التعامل و التمسك الأعمى بالمفاهيم المتوارثة، تسيء إلى الغاية المثلى المتوخاة من وراء إلتزام التحفظ اللصيق بالعمل القضائي و ما من شك أيضا في أن متطلبات الحياة المعاصرة، و مواكبة التطور ، تفرض تصورا مرنا للسلوك القضائي ، دونما تخل عن الثوابت ووجوه الأصالة و مقتضيات اللياقة .
في ضوء ذلك ، على القاضي أن يحسن الموازنة يبين واقعين أو إلتزامين:
الإنخراط في المجتمع من نحو ، و الإبتعاد عنه من نحو مقابل. الإنخراط حتى لا يكونا جفاء أو تعقيد أو سوء فهم متبادل ، و الإبتعاد حتى يجتنب المزالق و المهابط الإنخراط لأن العدالة بلسمة جراح و إحقاق حق محسوس ، و الإبتعاد لأنه ليس على القاضي أن ينخدع بحلاوات الألسنة و عرضيات الروابط و أضاليل الدنيا الغرور.
2-القيود الذاتية على القاضي :
1-حق القاضي في تنظيم حياته الخاصة كأي مواطن عادي خارج إطار الممارسة القضائية ومع ذلك ، عليه أن يسهر على هيبة وظيفته مستجيبا للثقة الموضوعية في شخصه و ممتنعا عن كل تصرف يضعف الثقة بالمؤسسة القضائية ( مخالطة عشرة السوء، التطرف في إبداء العواطف...) و قد تم التطرق إلى بعض حقوق القاضي و واجباته في هذا الصدد ، و بتفضيل أكثر، تحث عنوان " إلتزام التحفظ"
ب-إن ما يضع القاضي في موقع متميز عن مواقع أعضاء المجتمع الآخرين، هو طبيعة مهماته، و كونه معرضا بسبب هذه الطبيعة الخاصة للمراقبة النقدية من قبل الناس. فعليه أن يتقبل هذا التضييق، بصورة حرة و إرادية . و هو عندما إختار القضاء ، إختاره بخصوصيته ، و هيبته، و كرامته ، و حتى بوجوه التضييق فيه . فعليه إذا ألا يتبرم بالحالة التي هو فيها.
ج-إذا حصل أن شارك القاضي في مناقشات عامة قد تحصل بمناسبة إختلاطه بالمجتمع ، فعليه ألا يقحم نفسه في مجادلات عقيمة لا تتناسب و كرامة القضاء.
3-مراعاة إلتزامات الحياة الأسرية و الإجتماعية
-و من النافل القول إنه من حق القاضي، في هذا المضمار ، أن يحيا حياة عادية طيبة مع عائلته و في مجتمعه، بكل ما تحتمه من وسائل راحة و من وجوه إستمتاع في إطار الحدود التي يسمح بها وضعه التي يسمح بها وضعه المادي و في إطار السلوك الذي يحمي سمعته و يجنبه كل إنتقاد مبرر. مراعيا الإلتزام بمقتضيات اللياقة بشكل عام.
4-الإمتناع عن المجاهرة بآرائه الشخصية و الدينية و السياسية:
-إمتناع القاضي عن المجاهرة بأي رأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضيين حول تجرده ، و إجتنابه كل أشكال النضال الديني أو السياسي أو العقائدي على وجه عام ، حتى و لو كانت له آراء خاصة و مسافة حرية يضمنها الدستور ، و المواثيق الدولية.
5-الموجبات الأخلاقية على جميع القرارات القضائية الصادرة عنه أو عن غيره:
-إمتناع القاضي أيضا عن التعليق العلني على قرارات قضائية صادرة عن سواه تعليقا يخدم أعراضا غير علمية ، أو من شأنه النيل من قدر المحكمة التي صدرت عنها.
و على القاضي، من جهة أخرى، ألا يروج للقرارات التي يتخذها، حتى بعد صدورها، في سبيل الدعاوة لنفسه. و في المقابل ، من الطبيعي أن تتصدى السلطات المختصة (وزير العدل مثلا) لكل من ينال من القاضي بسبب القرارات التي أصدرها.
6-المحافظة على هيبته و شخصيته:
-يتعين على القاضي التحلي في تصرفاته و سلوكه و هندامه بما يحفظ هيبته داخل قصور العدل و خارجها ، و عدم إقامة علامات شخصية مع أصحاب الدعاوى و وكلائهم، و تجنب التردد على الشخصيات السياسية وتلك التي تتعاطى الشأن العام، و الحد من المشاركة في المناسبات و قبول الدعوات التي من شأنها جلب الشبهة عليه، على أن يكون له الحق في المشاركة في الأنشطة الخاصة شرط ألا تثير هذه المشاركة الشكوك حول حياده. و عليه في مطلق الأحوال ألا يرتاد أماكن اللهو المشبوهة، و أي مكان آخر لا يليق بمقامه.
7-المقتضيات المهنية:
-على القاضي ألا يسعى إلى تعزيز المركز القانوني لأحد المتقاضين في دعاوى مقامه أمام زملائه، و أن يكون شديد التحفظ لدى إستقباله المحامين في مكتبه حتى لا يوحى هذا الأمر بأنه من قبيل التفضيل أو الإنحياز لفريق دون الأخر، و ألا يسمح بإستعمال مكتبه أو منزله من قبل محام للمفاوضة مع أحد الزبائن ، و ألا يسمى محاميا للتوكل بقضية إذا ما طلب منه ذلك أحد المتقاضين ، و ألا يفاضل بين محام و آخر أمام هؤلاء، و ألا يقدم الإستشارات القانونية لأي كان ، حتى و لو كانت مجانية.
و عليه ألا يوحي للناس بأن إنتماءه إلى المؤسسة القضائية لم يتم عن قناعة تامة ، و بأنه يتحين الفرصة المؤاتية لتركها. و ألا يتذمر أمامهم من كثافة العمل التي تقابلها أوضاع مادية قد لا تكون مرضية فمعالجة هذه المشكلة، و أي مشكلة مماثلة في حال وجودها، تتم ضمن المؤسسة القضائية ، و في إطار القانون .
8-الأنشطة المسموحة للقاضي:
-بمستطاع القاضي الكتابة، و التعليم ، و المساهمة في نشاطات تتعلق بالقانون، و بشؤون التنظيم القضائي ، و بمفاهيم العدالة ، و في كل موضوع لصيق بهذه النشاطات ، و في نشاط آخر (فكري ، ثقافي....) شريطة ألا يضر هذا النشاط بكرامة القضاء أو بممارسة لمهمات القضائية، و كل ذلك بالطبع مع وجوب الإستحصال على إذن خاص لدى الضرورة ، أو بعد مراجعة الرئيس الأعلى ، و في كل حال مع الأخذ بعين الإعتبار ما تفرضه القوانين النافدة .
9-حفظ سر المداولة ( المذاكرة) :
-يقضي بأن القاضي مؤتمنا على حرمه المداولات ، سواء جرت في الهيئات القضائية العليا ، أو الغرب، أو في أي مجلس قضائي آخر . و يقضي أيضا بأن يحافظ القاضي على سرية التحقيقات الجزائية أو سواها مما يفرضه القانون، وألا يبوح بأية معلومات و صلت إليه عن طريق ممارسة وظيفته. إلا أن بعض "النوافذ الإعلامية" تكون ممكنة كلما كانت ضرورية لإلقاء الضوء على واقع العمل القضائي أو على مسار التحقيقات في قضايا تهم الرأي العام، و ذلك دون المساس بمبدأ سرية التحقيقات الجزائية و بحقوق الدفاع وبقرينة البراءة.
يبقى أن موجب التحفظ لا يخضع لمراقبة المجتمع، و لمراقبة الهيئات المسؤولة و حسب ، بل هو يخضع بصورة أساسية لمراقبة ذاتية من قبل القاضي. و هنا تكمن مسؤوليته الكبرى.
القاعدة الخامسة: الشجاعة الأدبية
Le courage moral –Moral courage
1-عدم التردد في إعلان الحق و الثقة بالنفس:
لا نستطيع أن نتخيل قضاء سويا بلا قضاة شجعان . و الشجاعة المعنية هي الجرأة التي تدفع القاضي إلى حسم الموقف و إتخاذ القرار بالرغم من ظروف توشك أن تضعه في مواضع التردد أو الخشية أو الإنصياع. إنها الشجاعة الأدبية التي هي مواجهة لا هروب، و تصميم على إعلان الحق دون سواه. وهي صلابة تجعل القاضي لا يتعلثم لسانه و لا يتعثر قلمه و لا يقلق ضميره بعد أن يكون الرأي الصواب ، فيقول نعم و لو كان الرابح هو الأوضع ، و لا و إن كان الخاسر هو الأرفع.
و لن يستقيم حكم ، و لن تشيع عدالة ، إلا إذا عزز القاضي ثقته بنفسه ، عبر الشعور بأنه هو القوي، و لامجال لإضعافه. إذا إعترى القاضي شعور بالضعف تجاه القوي مات في نفسه نصف العدالة. و يموت نصفها الآخر إذا غطى ضعفه هذا بالإستقواء على الضعيف.
2- سطوة الضمير و الحكمة:
-قد يكون القاضي في موقع حرج ، من حين إلى حين ، و لأسباب شتى. و قد يتعاظم الإحراج بالنظر إلى الخصوصيات السلبية التي تطبع مجتمعا من المجتمعات فمن العلائق الشخصية ، و إلى الروابط العائلية ، و إلى الإنتماءات الطائفية و المناطقية، إلى سطوة المال، إلى النفوذ السياسي، إلى المجموعات الضاغطة على تلونها ، إلى ما سوى ذلك من ظواهر تواجه القاضي حاملة معها الرغبة في التأثير على قراره. فهل يسايرها أو يخشاها أو يحرص على ترسيخ مركزه عبر الرضوخ لرغباتها ؟ إن هذه المسألة تأتي في صدارة المسائل و تتصل إتصالا وثيقا بإستقلال القضاء و إستقلال القاضي . و لكن ينبغي التشديد على أنه في أكثر اللحظات حرجا، لا يصح للقاضي أن ينسى أن القرار بيده ، و القلم بيده ، فليكتب إذا ما يمليه عليه القانون ، و ما يمليه عليه الضمير . لا يفهمن من ذلك أن الشجاعة تقصي الحكمة و ستتتبع التهور، إذ أن كلا منهما هي بحاجة إلى الأخرى حتى يكون القرار القضائي إحقاق حق لا تحديا.
3-عمل القضاة الكبار و الفقهاء مرجعا للقاضي:
إن كوكبة كبرى من القضاة، في سائر البلدان، في أوقات الطمأنينة و في اوقات القلق، غدت مثلا يحتذى بشجاعتها الأدبية، و غلبت داعي القناعة على كل داع آخر، و لم تساوم على ما هو حق و عدل، و ترفعت عن شهوات المآرب و المناصب، و إنتصرت للضعيف إذا كان قويا بقوة الحق،و صدت القوي إذا كان ضعيفا بالقوة ذاتها...فإلى مثل هذه الكوكبة القدوة ينبغي أن يعود القاضي كلما ووجه بحرج.
4- المواجهة الشجاعة :
-و قد يكون مفيدا التذكير في هذا المقام بأن التخلص من الحرج لا يكون بإستنكاف القاضي عن النظر في القضية المطروحة عن طريق طلب التنحي لإستشعار الحرج، و إن كانت هذه الطريق متاحة في القانون. إنها متاحة بالفعل لمن يستشعر الحرج لسبب جدي، لا لمن يخشى التصدي للمسألة بالنظر إلى سطوة طرف من أطراف الدعوى. والحل الصحيح لا يكون بالإنسحاب و بدفع الدعوى إلى قاض آخر ، و إنما يكون بالمواجهة ، أي بالشجاعة الأدبية.
إن الشجاعة الأدبية ركن أساسي من الأركان الملازمة لعمل كل فرد منح سلطة ما بموجب القانون. فمن الطبيعي أن تكون من أركان العمل القضائي، و من مزايا القاضي المسؤول الذي لا مفر له من مواجهة المشقات و تجاوز عوائق الحرج و التردد و الإنصياع.
القاعدة السادسة : التواضع
La Modestie – Modesty
1-عدم الإستعلاء :
أ-أمام المهمات الجسام الملقاة على كاهل القاضي ، و بالنظر إلى المنزلة المعنوية الرفيعة التي يتمتع بها في المجتمع إنطلاقا من هذه المهمات ذاتها و مما تستوجبه من مؤهلات و تضحيات و مزايا ، يطرح السؤال اللاحق : هل يصح للقاضي أن يركب مراكب الإستعلال و التكلف و الغرور ، و سائر المواقف ذات الأبهة والبهرجة ؟ إن التقاليد القضائية المتوارثة كابرا عن كابر ، و التبصر في جوهر العمل القضائي ، و تغليب ثقافة الإنفتاح و الواقعية و النزعة الإنسانية التي يقتضي أن تكون ملازمة لطبيعة هذا العمل ... إن هذه جميعا تقدم الجواب المنشود الآيل إلى أن التواضع هو من السمات ما ينال من إباء الأساسية في شخصية القاضي المميز . و ليس في التواضع ما ينال من إباء القاضي . فكلاهما من معدن واحد هو سمو النفس التي تنير بسطوع مناقبها دون أن تقع في الخيلاء الفارغة.
2-البساطة و الإبتعاد عن الغرور و التكلف و الرياء :
-و البساطة و جه من وجوه التواضع . و هي ، من هذه الزاوية ، و على نقيض مما قد يعتقده البعض ، سبب من أسباب قوة الشخصية التي تمهد الطريق لإتخاذ الموقف المؤاتي، و القرار الصائب . فكل تعقيد في المظهر، و في الأسلوب ، و كل فظاظة في القول و التصرف، و إبتناء للأبراج العاجية ، قد ينتهي إلى نتائج سلبية أبرزها إضاعة الطريق إلى جواهر الأشياء، و توسيع الهوة بين القاضي و الناس مما قد يؤدي إلى زعزعة الثقة بأحكامه.
3-الهدوء:
-و الهدوء وجه آخر من وجوه التواضع. و هو من أمضى الأسلحة القضائية نفاذا. فالغيظ و الغضب و الحماسة و الغليان ، عواطف جارفة ، و عوائف في الطرق الموصلة إلى العدالة ، و باب إلى فقدان السيطرة على النفس، وعلى الموقف.
أسرته و سائر المرتبطين به برابطة قربى أو مودة . و عليه ، في هذا الخط، ألا يسمح لهؤولاء بإستغلال موقعه لإجتناب المكاسب الخاصة و عليه ، في المجالس القضائية، أن يحسن مخاطبة المحامين ، و المتقاضين ، و المعاونين ، و سائر الذين يحتك بهم ، و أن يستظل القانون لا المزاج الشخصي لدى إتخاذ القرار، و ألا يستثار، و ألا ينزع إلى الإنتقام إذا صدرت عن سواه تصرفات غير لائقة .
و عليه، مع زملائه القضاة ، أن يكون سلس المعشر، متقنا فن الإصغاء، غير متجبر حتى و لو تفاوتت المراكز، و مجتنبا كل مباهاة بقدراته و مناصبه.
إن هالة القاضي، وفي نهاية المطاف، لا تتكون بفعل إصطناع المواقف، بل بفعل البساطة العميقة التي تنشر ظلالها عليه و تجعله محطا لأنظار الناس، و لإعجابهم به و بالقضاء.
القاعدة السابعة : الصدف و الشرف
La loyauté et la dignité –Honesty and dignity
هنالك مجموعة من اللياقات و الفضائل التي يجدر بالقاضي التحلي بها، و قد تم التطرق إلى بعضها في مواقع أخرى من هذه الوثيقة (النزاهة، إلتزام التحفظ، التواضع...). و إذا كان من الصعب ، بل من غير المناسب في هذا المقام، الإحاطة بها إحاطة شاملة، فلا بد من إلقاء الضوء على فصيلتين إثنتين منها،هما : الصدق و الشرف، بإعتبار أنهما وثيقتا الإتصال بالشخصية القضائية المثلى، و بكرامة القضاء.
إن دائرة المناقب القضائية واسعة. و التركيز على بعضها في هذه الوثيقة، لا يعني التخلي عن التمسك بكل القيم والممارسات العملية التي تعكس الأداء المثالي للشخصية القضائية.
1-التزام بمضمون القسم الذي يحلفه :
-إن مصطلحي "الصدق" و الشرف" ليسا غريبين عن التزامات الأخلاقية. فاليمين التي يقسمها القاضي المعين تتضمن تعهده بأن يتصرف في كل أعماله تصرف القاضي الصادق الشريف.
2-المضامين المشتركة للصدق و الشرف:
-من الصعب أيضا فصل إحدى هاتين الفصيلتين عن أخرى فصلا تاما، لأنهما تنطويان على بعض المضامين المشتركة ، كالكرامة ، و الإستقامة و الأمانة، والإخلاص، و الشفاعة بالرغم من ذلك ، يبقى ممكنا التشديد على وجوده تجعل لكل منهما كيانا خاصا.
3-موجبات الصدق:
أ-تجاه زملائه :
-يفرض الصدق على القاضي إزاء زملائه و يتمثل على الأخص بإحترامه الرؤساء القضائيين التسلسليين و بوضعهم في الجو الحقيقي لمسار علمه، و بتبيان حقيقة الأسباب و الصعوبات التي تؤدي أحيانا إلى التأخر في إنجاز هذا العمل، أو إلى تشويشه بشكل يفسد حسن سير العدالة في دائرة قضائية معينة.
ب- تجاه أطراف النزاع:
-يفرض الصدق نفسه على القاضي إزاء أطراف النزاع. و يتمثل على الأخص بإمتناعه عن التحرر عمدا من أحكام القانون الذي يعتبر الضمانة الأولى لهم .
كما يمثل بوجوب وضع هؤلاء، و ضمن الحدود المتاحة، في الجو الحقيقي لمسار الدعوى (أسباب تأخر فصلها مثلا: التحقيقات المعقدة، إنتظار تقارير الخبراء، التبليغات الإستثنائية، تغيب القضاة المشروع عن الجلسات ...).
4-إجتناب التضليل و المغالاة في نشدان الحقيقة :
-و من وجوه الصدق لدى القاضي : نشدان الحقيقة و إجتناب التضليل و المغالاة المفرطة في مواقفه، و الإمتناع عن الإدلاء بتصريحات مغلقة إلى وسائل الإعلام تتناول سيرورة المحاكمات أو شؤونا قضائية أخرى، و هي تنسب بالنتيجة إلى ما يسمى عادة " مصادر قضائية موثوقة" مع العلم بأن المصدر قد لا يكون موثوقا ، و كذلك المعلومات .
5-القضاء رسالة مقدسة:
-من المعروف أن القضاء هو من أشرف المهن، حتى أن البعض يعتبره رسالة لا مهنة ، فيزداد شرفا بهذا التصنيف، و من زاوية الأخلاقيات القضائية ، تعتبر فضيلة أولى الفضائل التي تدفع إلى إحترام القضاء، و تحافظ على صورته المشرقة ، و تمنع الظهور بأي مظهر يسيء إليها.
التصرف بصدق و شرف، بأمانة و كرامة، بصراحة و إستقامة ، يحمل في طياته أغنى الدلالات ، و يجعل من القاضي محط أنظار الناس، و من القضاء محط آمالهم.
القاعدة الثامنة: الأهلية و النشاط
La compétence et la Diligence –competence and diligence)
لا جدوى للمبادئ السابقة إن لم تقترن بأهلية القاضي و بنشاطه . فالأهلية هي الأداة النظرية اللازمة لإطلاق العمل القضائي إطلاقا سليما، و النشاط هو الأداة العملية اللازمة لإنجازه. إنهما بالنتيجة شرطان أوليان لازمان للممارسة المهمة القضائية ممارسة متسمة بالجدية و الفاعلية.
1-القاضي رجل علم :
ما من شك في أن القاضي هو رجل علم. و على رجل العلم أن يكون ذا أهلية لممارسة مهماته، في الحقل الذي إختاره ميدانا لعمله .
و الأهلية تفرض إمتلاك القاضي المعارف الكافية و المناسبة لممارسة مهماته على أفضل وجه. لأجل ذلك، عليه أن يفيد من كل وسائل التنشئة و التطوير الموضوعة في تصرفه.
2-تنمية معارف القاضي العامة:
-من المستحسن ألا يقف القاضي عند حدود الثقافة القانونية ، فلا بد من تعزيز المعارف العامة لديه قدر المستطاع ، لأنه لا يستطيع فهم معاضل مجتمعه و حل مشاكله إذا كان ضيق الأفق . فالمعارف العامة هي من حجارة الأساس في تكوين الشخصية القضائية، و على القاضي أن يوظفها لتحسين أدائه القضائي عن طريق بلورة المفاهيم الفلسفية أو الإجتماعية أو الإقتصادية أو الإنسانية التي تعضده لدى إتخاذ القرار.
3- البحث القانوني الدائم :
من مظاهر الأهلية أيضا التهيؤ الدائم للبحث عن حلول جديدة لبعض المسائل المطروحة . فالقضاء جوهره إجتهاد، و الإجتهاد تخط و إبداع، و نفاذ إلى الأعماق. كل ذلك مع وجوب الإقتداء بالأقدم إذا كان هو الأفضل، و بالثابت إذا كان تحويله عاجزا عن الإتيان بمثله أو بإجدى منه.
4-بدل العناية لإنجاز مهمته على أفضل وجه:
-النشاط، و العناية المبذولة في سبيل إنجاز المهمة المنوطة بالقاضي، و المثابرة، و الصبر على المشقات الناجمة عن طبيعة المهمة القضائية، تبدو بالغة الأهمية بذاتها، و خصوصا إذا ما قوبلت بأضدادها: كالكسل، و الإهمال، و الغياب المتكرر، و التبرم. وهي لا تعني في أي حال التسرع في إصدار الأحكام و في إتخاذ المواقف، بل الدقة في إحترام المواعيد المحددة لها.
من مستلزمات إلتزام النشاط:
أ-أن يقدم القاضي مهماته القضائية على كل مهمة أخرى، و أن يكرس نشاطاته المهنية لتنفيذ مهماته القضائية، و ألا يسلك أي مسلك لا يأتلف مع التنفيذ المجد لهذه المهمات، و أن يفصل في القضايا المعروضة عليه ضمن مهلة معقولة فتكون لقراراته عملية، و لا تصدر بعد فوات الأوان.
ب-إحقاق الحق و بالتالي إصدار القرارات المناسبة حتى لا يكون في حالة تمنع أو إستنكاف عن إحقاق الحق.
و في حالتي التمنع عن إحقاق الحق، و التمادي في تأخير إصدار القرارات، قد يعرض القاضي الدولة لدعوى التعويض بسبب المسؤولية الناجمة عن أعمال المرفق القضائي، كما قد يتعرض لتدابير سلبية بحقه و لجزاءات مالية.
ج-أن يظل القاضي دائم الإستعداد لتلبية كل مهمة تفرشها عليه مقتضيات العمل. فليس له أن يتبرم من أي ملف أو أي قضية ينتدب لفصلهما، لأن التقدير لا يعود له بل للذين منحهم القانون سلطة إنتدابه.
و إن أسوأ ما يواجه العدالة، في إطار هذا الموجب، هو أن يغدو تكديس الملفات العالقة لدى القاضي عادة مألوفة تفتقر إلى خطة منظمة للمعالجة. فإحالة الدعوى إلى حكم ، أو تجهيز أي ملف آخر تمهيدا لفصله، لا يحسمان الأمر بحد ذاتهما و يبقيان بحاجة إلى التصدي النهائي لهما لإتخاذ القرار المؤاتي. ووراء كل ملف إنسان ينتظر، و مجتمع قد يكون هو أيضا من المتضررين في حال التلكؤ.
5-أهمية النشاط في العمل القضائي:
-موجب النشاط ليس فضيلة شخصية و حسب، فهو يلقى على عاتق القضاء برمته، و يلزم العدالة بمجموعة أجهزتها.
-لا بد من أن توضع في متناول القاضي الوسائل الملائمة التي تمكنه من بلورة نشاطه، و من تفعيله . و تقوم نشاطه يرتبط إذا بتوافر هذه الوسائل.
طالما أن الغاية النهائية للقضاء هي إشاعة العدالة و تحقيق الرسالة لا تكتمل إلا عند الظفر بثقة الناس بالقضاء، فإنه لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا على يد قضاة نذروا أنفسهم للعلم ، و للعطاء، فكانت لهم الأهلية الكافية للممارسة، و كان لديهم الإندفاع البين للبذل