هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الخطأ الجزائي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المدير أ/ طه العبيدي
Admin
المدير أ/ طه العبيدي


عدد الرسائل : 5241
الإسم و اللقب : رجال القانون
نقاط : 5743
تاريخ التسجيل : 19/01/2008

الخطأ الجزائي Empty
مُساهمةموضوع: الخطأ الجزائي   الخطأ الجزائي Emptyالثلاثاء سبتمبر 29, 2015 12:02 pm



الخطأ الجزائي


بقلم ملاك العش




يحمي القانون الجزائي ركائز الكيان الاجتماعي من الانهيار لذا كان تجريم الأفعال الماسة من هذا الكيان محل عقاب سواء اتخذت صورة القصد أو الخطأ. ويمثل تجريم الخطأ الجزائي استثناء من القاعدة المبدئية المقرّة لتجريم القصد،فقد نص المشرع بالفصل 37 من المجلة الجزائية أنّه " لا يعاقب أحد إلاّ بفعل ارتكب قصدا عدا الصور المقررة بوجه خاص بالقانون ". فإلى جانب الخطأ القصدي جرم المشرع أفعالا غير قصدية وهو ما يطلق عليه الخطأ وهو "تقصير يتمثل في اتجاه الإرادة إلى القيام بسلوك مخالف للقانون الجنائي بدون نية الاضرار أو إحداث النتيجة الاجرامية التي حصلت" . ولقد عرّفه الفقيه "فيتيي"(VITU) بأنّه "يكمن في عدم توقّع الآثار الضارّة للفعل المرتكب أو عدم الظّنّ بوقوعها أوعدم أخذ الاحتياطات اللاّزمة لمنع حصولها" .
ولقد نظم المشرع على هذا الصنف من التجريم بالفصلين 217 و 225 من المجلة الجزائية المتعلقين بالقتل والجرح على وجه الخطأ، فنصّ بالفصل 217 أنّه يعاقب "مرتكب القتل عن غير قصد الواقع أو المتسبب عن قصور أو عدم احتياط أو إهمال أو عدم تنبّه أو عدم مراعاة القوانين "، أمّاالفصل 225 فينصّ أنّه يعاقب "كلّ من تسبّب بقصوره أو بجهله ما كانت تلزمه معرفته أو عدم احتياطه أو عدم تنبّهه أو تغافله أو عدم مراعاته للقوانين في الحاق أضرار بدنية بغيره أو يتسبب فيها عن غير قصد "ويستعمل المشرع نفس المصطلحات بالفصل 309 من المجلة الجزائية المتعلق بإشعال حريق بدون قصد.وقائمة الأخطاء المذكورة بهذهالفصول قد تكون بالفعل أو بالترك ولا تسند النّتيجة لإرادة إيجابية للفاعل وإنما لغياب الفطنة أو لتقاعس الإرادة، حسبما عبّر عنه المشرّع من قصور وعدم احتياط وعدم انتباه.فالخطأ الجزائي هو "خروج عن المألوف في التصرف موصل لنتيجة إجرامية فهو إخلال بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون مع توفر علاقة نفسية تصل بين إرادة المجرم والنتيجة الجرمية" ، وبالتالي يكون للخطأ الجزائي عنصران أوّلهما الاخلال بواجب الحذر والاحتياط وثانيهما توفر علاقة نفسية بين إرادة الجاني والنتيجة الاجرامية.
ويمكن القول أنّ الخطأ الجزائي من أشد المفاهيم غموضا إذ يصعب حصره وضبطه، كما أنّ التفرقة بين فعل الاهمال أي الخطأ الجزائي ونتيجته والرابطة السببية من أدق ما يكونوذلك لتداخل هذه العناصر أحيانا.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ من نتائج انعدام القصد في هذا الصنف من التجريم انتفاء المحاولة في الخطأ الجزائيلأنّها تتطلب توافر قصد إتمام الجريمة، وطالما أنّ القصد منتف فالمحاولة هي أيضا كذلك . كما ينتفي الاشتراك في الخطأ الجزائي لعدم توافر ركن القصد "فالمساهمة في أي فعل أو ترك كفيلة بجعل صاحبها فاعلا أصليا" .
ولقداستعمل المشرع ضمن الفصول المجرمة للخطأ الجزائي مصطلحات عامة وواسعة للتعبير عنه بشكل يجعل كل خطأ مهما كانت درجته يدخل ضمن تصنيف الخطأ الجزائي.وأدى اتساع المفهوم إلى تداخله مع الخطأ المدني ومنه كان قيام نظرية وحدة الخطأين الجزائي والمدني. إذ اعتبر جانب من الفقهأنّ اتّساع الخطأ الجزائي يجد سببه في ما يرمي إليه القانون الجزائي من استتباب النّظام والاستقرار، ومن ثم يتعيّن معاقبة الإهمال مهما كانت بساطته لأنّ العقوبة تحضّ على بذل يقظة أكثر من قبل من تسلّط ضدّه . فكل "شخص يعلم أنّهسيعاقب عن كلّ خطأ بسيط" ،مما يحثّ كلّ فرد لبذل جهد للاحتياط والانتباه .
وهكذا تبدو نظريّة وحدة الخطأين الجزائي والمدني وسيلة متماشية مع مستلزمات الأمن وما فيها من ردع لأبسط الأخطاء. ولكنّ تعدّد الأخطاء غير العمدية يعدّ سمة بارزة في الوقت الراهنوذلك في مجالات تقنية عديدة من بينها مثلا المجال الطبي فهو ميدان فني متطور، فإذا ما قامت المسؤوليّة الجزائيّة للطبيب على خطأ بسيط جدا من أجل تأمين إسداء التّعويض للمتضرّر، فسيؤدي ذلك إلى تراجع المبادرة الشّخصيّة التي تمثّل ميزة في هذه المهنة. هذا إلى جانب ما تتركه العقوبة الجزائيّة من أثر معنوي سيّئ على الطّبيب .
وأمام ما يواجه تحديد الخطأ الجزائي منصعوبات تُطرح الاشكالية الآتية: هل أن اتساع مفهومالخطأ الجزائي كيفما نظمه المشرع قد حافظ به على الوظيفة الزجرية للمسؤولية الجزائية؟
إنّ أهم ما يميز الخطأ الجزائي شموله لأفعال لا حصر لها مما أدى إلى اتساع نطاق التجريم (الجزء الأول)، لكن من الضروري أن يكونللتجريم غاية وهي تحقيق الوظيفة الزجرية للمسؤولية الجزائية ( الجزء الثاني).

الجزء الأول: الخطأ الجزائي واتساع نطاق التجريم
إن اتساع نطاق التجريم مردّه اتساع المصطلحات المحددةللخطأ الجزائي (الفقرة الأولى) إلى جانب اعتماد معيار موضوعي لتقديره (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: اتساع المصطلحات المحددةللخطأ الجزائي
استعمل المشرّع ضمن النّصوص القانونية المجرّمة للقتل أو الجرح على وجه الخطأ مصطلحات واسعة، فالقانون الجزائي يعاقب كل إهمال ترتّب عنه قيام الفعل المجرّم .ولقد عدّد المشرّع على سبيل الذكر لا الحصر التصرفات التي يمكن أن تعبّر عن الخطأ مستعملا مصطلحات عامّة يمكن أن تأخذ بعضها مكان البعض الآخر ، فالقصـور "La maladresse" هو "تركالحيطة المفروضة في الانتباه، والذي بمراعاتها يقع تفادي الحادث" ، فهي عدم الاحتياط، أمّا الإهمال "La négligence" فهي اتخاذ موقف سلبي مع ترك واجبي الحيطة والحذر اللذين كان من شأن اتخاذهما تفادي النتيجة،وهو مصطلح يقرب مـن عدم التنبه "L'inattention"، ويعتبره الفقه صورة مصغّرة للإهمال . ولئن كانت كل هذه المصطلحات تتميّز بطابع ذاتي فإنّ المشرّع قد أضاف إليها صورة أخرى وهي عدم مراعاة القوانين،وفي مجلة الطرقات يستعمل المشرع عدم مراعاة التراتيب . فالإخلال بالتراتيبهو وجه للإهمال والتقصيرموجب للمساءلة عندما يرتب ضررا.وتعكسهذه الحالة اتّجاها موضوعيا للتجريم طالما أنّ العقوبة المسلّطة على الفاعللا تكونبالنّظر إلى قيمة معنوية وإنما لفرض قواعد سلوكية فحسب. فيكون عمل القاضي مقتصرا على ذكر ارتكاب هذه الأفعال المادّية دون الاهتمام بالجانب النّفسي للفاعل.
من كل ما سبق يتضح أنّ المشرع ولئن عدّد صور الخطأ الجزائي على سبيل الحصر ولكن اتساع مدلولها يعكس اتجاههإلى التجريم المفتوح حيث أنّ كلّ فعل يمكن أن يدخل تحت طائلة هذه القائمة حتى وإن كانت حصرية.
وهكذا فاتّساع مفهوم الخطأ الجزائي جعله يشمل جميعدرجات الخطأ الممكنة.فالدلالات الواسعة للعبارات المستعملة من قبل المشرّع تمنع إقصاء أيّ خطأ منها مهما كان بسيطا ،كما أدى إلى القول بوحدة مفهوم الخطأ الجزائيوالخطأ المدني .
ولقد كان فقه القضاء الفرنسي أسبق من الفقه من حيث تأكيده على وحدة الخطأين،من خلال قرار لمحكمة التّعقيب صادر في 18 ديسمبر 1912 ذكرت فيه "أنّ الخطأ الجزائي حسب الفصل 319 و320 يحتوي على كامل عناصر الخطأ المدني" . ومنذ ذلك الحين تمّ التّأكيد على استيعاب الخطأ الجزائي للخطأ المدني ، وبهذا التّصريح تخلّت محكمة التّعقيب عن فقه قضائها السابق الذي كرّس نظريّة ازدواج الخطأين . وهو موقف سار على دربه أغلب الفقه والقضاء التونسيينفكل من الخطأين الجزائي والمدني لهما مفهومان واسعين "فكلاهما خطأ شخصي وكلاهما يرتكز على الإهمال" . وهكذا قيل أنّه "ليس منطقيا أن يوضع للإهمال مفهومان مختلفان من حيث الدّرجات والعناصر والنّتيجة" . فطبيعة الخطأ غير العمد متماثلة في كل الحالات سواء في الميدان الجزائي أو المدني .
وهذا المعيار هو الذي استقرّ عليه الاجتهاد القضائي في تونس إذ تعتبر محكمة التّعقيب "أنّ مفهوم الخطأ في جنحة القتل الخطأ ....لا يخرج عن مفهوم الخطأ في شبه الجنحة المدنيّة الذي جاء به الفصل 83 من م.ا.ع" . وبالتالي لا يمكن فصل الخطأ المدني عن الخطأ الجزائي ، فكل خطأ مدني يشكل جنحة جزائيّة وإنّ كل جنحة مدنيّة خاضعة للقانون الجزائي .
ولكن اتساع الخطأ الجزائي وشموله لأفعال لا حصر لها يُناقضمبدأ شرعيّـة الجرائـم والعقوبات الذي يرسم حدود المسؤوليّة الجزائيّة، إذ يسأل الشخص جزائيا عن تصرّفات سبق تجريمها، بينما يسأل مدنيّا عن جميع أفعاله التي يترتّب عنها ضرر للغير ممّا يجعل الخطأ المدني أوسع مجالا من الخطأ الجزائي.
ولا يقف الأمر عند تأكيد استيعاب الخطأ الجزائي لشبه الجنحة المدنيّة وإنّما لا بدّ من إبراز العلاقة القائمة بين هذه الوحدة والمسؤوليّة التّعاقدية في جانبها الناجم عن خرق التزام ببذل عناية. ففي هذا الالتزام يتعهّد المدين بجعل كل الوسائل التي يملكها في خدمة الدائن والإخلال بهذا الالتزام يكمن في الانحراف عن بذل العناية الكافية أي ارتكاب خطأ، من ذلك مثلا التزام الطّبيب ، وهذا الانحراف تنطبق عليه نفس قواعد المسؤوليّة التّقصيريّة فيما يخص الرّكن المتعلّق بالخطأ ، ممّا أفضى إلى دمجه في تعريف الخطأ الجزائي ، طالما أنّ الالتزام ببذل عناية وكذلك شبه الجنحة المدنيّة يشترطان إثبات خطأ شخصي . وهكذايتجلّى أنّ نظريّة وحدة الخطأين "اتسع ميدان تطبيقها فإضافة للخطأ الناجم عن شبه الجنحة –المنصوص عليها بالفصل 83 من م.ا.ع، فهي تشمل الخطأ التّعاقدي المترتّب عن الإخلال بتنفيذ الالتزام ببذل عناية" .
وعلى ضوء ما سبق مثّل الاستناد إلى اتّساع عبارات الفصول المنظّمة للخطأ الجزائي غير العمد،للقول باستيعاب مفهوم الخطأ الجزائي لشبه الجنحة المدنيّة. ولكنّ هذا القول مردود عليهإذ لا يمكن استخلاص هذه النّتيجة من المصطلحات المستعملة من المشرّع ، خاصّة أنّ "كل صنف من الخطأ المنصوص عليه قابل لأن تكون لـه درجات، فخطورة الإهمال أوعدم الاحتياطقد تزداد أو تتقلّص حسب الظّروف. ولئن سكت المشرّع بشأن توضيح الدرجة التي يبتدئ منها مؤاخذة الإهمال، فإنه لم يذكر أيضا أنّ كلّ إهمال أو عدم انتباه كاف لإيقاع عقوبة" . كما أنّ التطوّر التقني ساهم في تعدّد الهفوات المرتكبة، ممّا يجعل تسليط عقوبة جزائيّة على أخطاء تافهة جدّا مؤدّيا إلى إفراط في التّجريم . وقد يصبح الحلّ المنتظر على المستوى المدني هو الذي يملي الحلّ على المستوى الجزائي ، تطبيقا لحجية الحكم الجزائي على القضاء المدني، ممّا يفضي إلى تغيير وظيفة النّزاع الجزائي ليكون أداة بيد المتضرّر .
كما يلاحظ أنّ تسليط عقوبة على خطأ جزائي بسيط للحصول على تعويض على المستوى المدني، سيثير لدى الفاعل لا مبالاة بالعقوبة المسلّطة عليه لأنه يعلم أنّ الغاية من إيقاعها تتمثّل في إسداء تعويض للمتضرّر ، لا الرّدع. ولقد أكّد "شافان"(CHAVANNE) أنّ نظريّة وحدة الخطأين تؤدّي إلى التغاضي عن عدّة مفاهيم كشخصية العقوبة وتفريدها ، وبذلك فهي تمثّل "عنصر اضطراب وفوضى في تنظيم العدالة" ، وقد ينتهي الفاعل إلى "التعوّد على ارتكاب الخطأ" . لذا يمكن القول إنّ إتاحة إمكانيّة إسداء التّعويض من قبل القاضي في صورة الحكم بالبراءة، يقع بها تجاوز تشويه الخطأ الجزائي غير العمد وما يترتّب عنه من تغيير هدف المسؤوليّة الجزائيّة، إذ يجنّب القاضي الجزائي عناء البحث عن أخطاء تافهة، ويتوقّف الحرج الذي يسبّبه لـه مبدأ وحدة الخطأين ، فبعض الأخطاءلا تتطلّب في حقيقة الأمر تسليط عقوبة جزائيّة بقدر ما تتطلب غرم الضّرر، وبالتالي تقوم المسؤوليّة المدنيّة بدورها دون ما حاجة إلى المساءلة الجزائيّة.
كما أنّ في اعتماد وحدة الخطأين الجزائي والمدني إهمال للفصل 19 من المجلة الجزائية الذي ينص " الحكم بالبراءة أو بالعقوبات المنصوص عليها بالقانون لا يمنعان المتضرر من حق استرجاع متاعه وتعويض الضرر الذي لحقه"، فقد جسّم هذا الفصل بجلاء عدم وحدة الخطأين الجزائي والمدني، وأوضح ﭬيو وهو أحد واضعي المجلة الجزائية في تعليقه على هذا الفصل بأنّه يفيد "إذا كان الحكم بترك السّبيل مبنيّا على عدم وجود قصد المضرّة فإنّ القيام لدى المدني لا مانع منه لأن مسؤولية المطلوب ربّما تكون موجودة وناتجة عن شبه جنحة ومثل ذلك في الحكم صورة ترك السّبيل الجزائي فالحكم الصّادر من المحكمة الجزائيّة بترك سبيل متّهم أو بإعفائه من المحاكمة لعدم نصّ القانون على المؤاخذة لا يكون مانعا للحاكم المدني من اعتبار وقوع الأمر حقيقة واعتباره مخالفة مدنيّة" . وفي ذلك تأكيد على استقلاليّة القاضي المدني عند النّظر في مسألة التّعويض إزاء حكم قاض بالبراءة لعدم وحدة الخطأين الجزائي والمدني" .وهذا يتجه في نفس مسار ما نص عليه الفصل 101 من م. ا. ع. من أنّ "الحكمالصّادر من محكمة جزائيّة بترك سبيل متهم لا يؤثّر في مسألة تعويض الخسارة النّاشئة من الفعل الذي قامت به التّهمة وهذا الحكم يجري في صورة سقوط الدّعوى بسبب وفاة المتّهم أو لصدور عفو عام"
من جهة أخرى فإنّ التّداخل بين الخطأين يؤدي إلى تشويه الخطأ الجزائي، ونزع مدلوله الأصلي . ففي المجال الجزائي، أدّى هذا الوضع إلى غلبة الجانب المادّي للأضرار على حساب الجانب النّفسي الجزائي . ولقد بدا ذلك واضحا بخصوص تقدير الخطأ الجزائي.
الفقرة الثانية: اعتماد معيار موضوعي لتقدير الخطأ الجزائي
إنّالأصل في تقدير الخطأ الجزائي أن يكون تقديره وفق "المعيارالشّخصي "appréciation in concreto"، وذلك للاعتداد بشخصية الفاعل ومحاسنه وعيوبه وتكوينه وتربيته إلخ، "فالمقارنة هنا تكون بين سلوك الشخص نفسه وبين ما كان ينبغي عليه أن يفعله على ضوء ظروفه الخاصّة حيث يتوافر الخطأ في جانبه متى كان قادرا على تجنب حدوث الفعل الضار بالنّظر إلى صفاته الشّخصيّة" كالسنّ أو الجنس أو درجة الذكاء أو التعليم.
وعلى خلاف ذلك يكون تقدير الخطأ المدني حسب معيـار موضوعي "in abstracto" .فسلوك المتسبّب في الضّرريقارن بسلوك رب الأسرة الصالح "Bonus pater Familias" أي سلوك الشخص العادي الذي يتميّز بدرجة من اليقظة والاحتياط متواجدا في نفس الظّروف الخارجية . وهكذا "فإذا كان تقدير الخطأ بمعيار موضوعي يعني مقارنته بنموذج آخر مجرّد، فإنّ هذا النموذج يجب وضعه في الظّروف التي وجد فيها المدّعى عليه نفسه وذلك لأن السّلوك يتأثّر بالظّروف التي تحيط به" ، فلا يأخذ هذا المعيار بعين الاعتبار الناحية المعنوية كالسّن أو الجنس أو الذكاء أو الخبرة وإنّما يأخذ فقط بعين الاعتبار الناحية الاجتماعيّة كالمكان والوقت والوسط الاجتماعي والعادات والتقاليد. و"بهذا يحتفظ معيار الخطأ بالمرونة اللاّزمة التي تمكّنه من التّعبير عن جميع التّطوّرات التي تحدث في البيئة الاجتماعيّة" .
لكن هذا المعيار الموضوعي في تقدير الخطأ المدني سحب على الخطأ الجزائي من قبل مناصري وحدة الخطأيـن ، واعتمدت محكمة التعقيب طريقة التقدير الموضوعية معتبرة أن الخطأ الجزائي هو خروج عن المألوف و" يتحدد مقياس الخروج عن المألوف بتجاوز الخبرة الانسانية العامة في مجال محدد وبشكل موضوعي يتجاوز البراعة الشخصية والفردية بمعنى أنّه يعتد بسلوك الشخص المجرد في ضبط الخروج عن المألوف" . كما أخذت محكمة التّعقيبفي أحد قراراتها بوحدة معيار تقدير الخطأين المدني والجزائي فذكرتبأنّه "لا مجال مدنيا لإعادة النّظر في تقدير الخطأ الذي وقع البتّ في شأنه في النّطاق الجزائي متى كان هو ذات الخطأ المؤسس عليه الطلب في المجال المدني" .
لكنّ التقدير الموضوعي للخطأ الجزائي المرتكب لا يأخذ بعين الاعتبار أهمّية الخطر الذي يحدثه الفعل . وأدّى ذلك إلى إهمال خصائص الخطأ الجزائي، فالنّظرة الموضوعية لإيقاع العقوبة عبر اعتماد النّتيجة الحاصلة، تشوّه القانون الجزائي إذ في ذلك تعارض مع مبادئه المتمثّلة في ارتباط العقوبة بالعنصر المعنوي بمعنى درجة الخطأ المرتكب.ومساوئ الارتباط بالنتيجة الضارة يتضح في المثال الآتي فقدأصدر قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بصفاقسقرارا يقضي بأن لا وجه للتتبع في قضية تتعلق بطبيب من أجل الجرح على وجه الخطأ معللا ذك بعدم وجود ضرر ناجم عن فعله عدا إجراء عملية قيصرية على الأم ، وبالتالي لميُأخذ بعين الاعتبارما ارتكبه من خطأ في تشخيصهللمرض وما يتصف به ذلك من معيار الخطورة وبالتالي تم إهمال العنصر المعنوي ضرورة أنّ الأخذ ببعض المميّزات الشّخصيّة والنّفسية للفاعل، يحقّق الوظيفة الزجريّة للقانون الجزائي.
ولقد دافع البعضعن طريقة التقدير الموضوعيةللخطأ الجزائي، لأنّ" تقدير الخطأ في علاقة حميمة مع طبيعته" . فبقراءة للنّصوص التّشريعية المنظّمة للخطأ الجزائي غير العمد،يلاحظ أن المشرّع قد جعل النّتيجة الضارة الحاصلة–الجرح والقتل على وجه الخطأ- عنصرا من عناصر التّجريم، فكانت نظرته للخطأ بالإهمال موضوعية لا ذاتية، لأنّ العقوبة مستقلّة عن العنصر المعنوي أي خطورة الخطأ المرتكب،الأمر الذي يبرر طريقة التقدير الموضوعي.
إلاّ أنّ سلامة هذا الرّأي لا تقف حاجزا أمام نقد ما قضىبه المشرّع،إذ كان عليه أن يحدّد العقوبة بالنّظر إلى الفعل المرتكب في حدّ ذاته، بمعنى كتصرّف، وليس بالنّظر إلى النّتيجة الحاصلة ،خاصّة وأنّ العقوبة هدفها الرئيسي هو تهذيب السّلوك، وهو ما يميّز القانون الجزائي عن القانون المدني الذي يهتمّ بالتّعويض . وهذا الالتزام بالتّعويض مرتبط بأهمّية الضّرر الحاصل على المستوى المدني . أمّا في المادة الجزائيّة، فإلى جانب الارتباط القائم أحيانا بين خطورة النّتيجة وخطورة الجاني فإنّ ذلك لا ينفي الدّور الذي من الممكن أن تلعبه الصدفة في عدم حصول النّتيجة الضّارة .
ويمكن القول أنّ التصور الذاتي للقانون الجزائي يعكسه الأخذ بعين الاعتبار في ذات الوقت نفسية الفاعل وكذلك خطورته المتوقعة بصفة مستقلة عما ترتب عن فعله من ضرر فعلي للنظام العام، حتى لا يتخلّى القانون الجزائي عن دوره المتمثّل في الرّدع وتقويم السّلوك. وفي هذا الإطار يمكن ذكر مثال طرح على محكمة التّعقيب نفت فيه وقوع خطأ جزائي الذي سبق الأخذ به استئنافيا فذكرت أنّ "المسؤوليّة لا تترتّب على الخطأ إلاّ إذا نشأت عنه رأسا ومباشرة ومجرّد مخالفة لقانون الطرقات، كالوقوف وسط المعبّد والسير علـى اليسار لا يؤاخذ عليه إذا لم يكن هو السّبب المباشر للموت أو الجرح على وجه الخطأ" . وعليه كان تقدير التصرّف بالنّظر إلى النّتيجة الحاصلة، وأدّى إلى عدم تجريم الفعل المرتكب، وإنّ نفي هذا الخطأ ستترتّب عنه نفي للخطأ المدني تطبيقا لوحدة الخطأين. فالقاضي الجزائي قام بتقدير الخطأ حسب معيار موضوعي، إذ استخلص من تقديره لأهمّية الضّرر خطورة الفعل المرتكب والعكس. والحال أنّه كان من واجبه القيام بتقدير الخطأ لا بالنّظر إلى النّتيجة الحاصلة، وإنّما بالنّظر إلى التصرّف في حدّ ذاته وفاعله، وهذا يساهم في تحقيق الوظيفة الزجريّة للقانون الجزائي، فالعقوبة ليست مرتبطة فحسب بالنّتيجة بل أيضا لا بدّ أن تختلف حسب مساهمة الإرادة فالعنصر النّفسي ذو أهمّية من أجل أن تقوم المسؤولية الجزائي بوظيفتها الزجرية

الجزء الثاني: الخطأ الجزائي وتحقيق وظيفة الزجر
إنّ تحقيق وظيفة الزجر تكون بدعم العنصر المعنوي للخطأ الجزائي (الفقرة الأولى)، وبتكريس تدرج فيه (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى:دعم الركن المعنوي في الخطأ الجزائي
تمتدّ جذور كل من الخطأين الجزائي والمدني إلى المسؤوليّة الأخلاقيّة، لكنّهما انفصلا لاحقا من حيث مكوّناتهما.فالخطأ المدني ابتعد عن مكوّنه المعنوي وما يشمله من فكرة الذنب الأخلاقي . وأصبح الاهتمام بالمتضرر أكثر من الفاعل" .
وعلى خلافه لم يتخلّ القانون الجزائي عن فكرة الذنب الأخلاقي،لأنّ "العقوبة على عكس التّعويض لا تمثّل نهاية في حدّ ذاتها، بل هي وسيلة لتغيير اتّجاه الإرادة السّيئة ولإصلاح سلوك خطير" .وإلحاق العقوبة بالفاعل يقتضي من القاضي الجزائي اتّباع مقياس ذاتي لتقدير الخطأ الجزائي، لأنّ العقوبة الجزائيّة لا يمكن أن تقوم بوظيفتـها إلاّ إذا وقعت دراسة شخصية الفاعل،فلا ينظر فحسـب للفعل المرتكب بصفة موضوعية .وبالتالي لا يمكن إنكار دور الإرادة كمكوّن للخطأ الجزائي فهناك إرادة الاتجاه نحو هذا السلوك الاجرامي رغم أنّ الارادة لم تتجه إلى النتيجة الاجرامية الحاصلة ولم ترغب في وقوعها.
وفي القرن التاسع عشر مثل العنصر المادي للفعل وخاصة النتيجة الضارة محل اهتمام علماء الاجرام وأصبحت له اليوم أهمية ثانوية فتحت تأثير مدرسة الدفاع الاجتماعي غدى القانون الجزائي يعتمد مقاربة ذاتية احتل فيها الخطأ أي العنصر النفسي معيارا محددا للعقوبة والزجر.
وبالتالي فإن كانت النظرية التقليدية تنطلق من الاضطراب الحاصل نتيجة الجرم لتبرير الزجر وهي بذلك تهتم إلى حدّ كبير بضرورة حصول نتيجة ضارة. فعلى العكس من ذلك لا تأخذ النظرية الذاتية بعين الاعتبار نتيجة الفعل وإنما خطورة الفاعل، فهي تهتم بالإرادة الآثمة في تمظهرها الخارجي مهما كانتالنتائج .
حينئذ ينبغي أن يرتبط التّكييف القانوني بالفعل المرتكب أكثر من النّتيجة، وهكذا يبتعد الخطأ الجزائي عن شبه الجنحة المدنيّة ذات المحتوى الموضوعي ، فتنفصل العقوبة عن النّتيجة الحاصلة وتغدو غير مرتبطة آليا بها، لأنّ العقوبة تتأثر أيضا بالدّور الذي تلعبه الإرادة في ارتكاب الخطأ . وحينها يقدّر الخطأ الجزائي بصفة شخصيّة، وتتراجع الصّلة بين إيقاع العقاب والنّتيجة الحاصلة، في حين تقوىالصلة بين العقاب وإرادة الفاعل.
ففي الخطأ الجزائي لا يكفي خرق واجب الحيطة والحذر بل لا بد أن يفضي هذا السلوك إلى إحداث النتيجة الجرمية ولكن يكون "متعينا أن تتوافر صلة تجمع بين الإرادة والنتيجة على نحو تكون فيه الإرادة بالنسبة لهذه النتيجة محلّ لوم القانون فيسوغ بذلك أن توصف بأنّها إرادة إجرامية وبغير هذه الصلة لا يكون محلّ لأن يسأل صاحب الإرادة عن حدوث النتيجة" .وتقوم العلاقة النفسية بين الإرادة والنتيجة بإحدى الصور الآتية، فإمّا أن يتوقع الفاعل حصول النتيجة ومع ذلك لا يقوم بما يفرضه عليه واجب الحيطة والحذر لمنع حصولها، رغم أنّه في استطاعته القيام بذلك. وإما أن يتوقع حصول النتيجة ولكن إرادته تأمل في عدم حدوثها، وإما أن لا يتوقع حصول النتيجة مع أنّه كان يجب عليه أو كان باستطاعته توقعها.ولقد ذهبت محكمة التعقيب في أحد قراراتها إلى إبراز العلاقة النفسية والنتيجة الحاصلة قولا " هناك علاقة نفسية بين الإرادة والنتيجة تأتي على صورتين، فإما أن لا يتوقع فيها المجرم حدوث النتيجة فلا يبذل جهدا للحيلولة دونه، والحال أنّه باستطاعته تجنبه، وإمّا أن يتوقع حدوث النتيجة ولكن لا تتجه إرادته إلى ذلك، فيكون الخطأ الجزائي على نوعين إمّا خطأ مع التوقع أو خطأ بدون توقع فيفترض الخطأ أنّ الفاعل قد أغفل العناية التي كانت في استطاعته ومن واجبه بالنظر إلى ظروفه ومعلوماته وإمكانياته الشخصية فلم يتوقع النتيجة الجرمية التي كان في وسعه توقعها لو بذل العناية المطلوبة المفروضة عليه، أو توقع إمكان حدوثها ولكن قدّر أنّها لن تحدث وهكذا فإنّ الركن المعنوي في الجرائم غير القصدية ليس القصد الجزائي وإنما الخطأ الجزائي سواء كان متوقعا أو غير متوقع" .
ولقد راجعت العديد من التشريعات المقارنة مفهوم الخطأ الجزائي آخذين بعين الاعتبار أهمية العنصر المعنوي في هذا الصنف من التجريم ضمانا للوظيفة الرئيسية للمسؤولية الجزائية. وفي هذا الإطار نصت المجلة الجزائية السويسرية بالفصل 18 في فقرته الثالثة "يعاقب القصور عندما لايستخدم الجاني الاحتياطات التي تمليها الظروف ووضعه الشخصي". كما نص القانون الجزائي اليوناني في فصله 28 على تقدير قصور الفاعل على ضوء "ما يجب عليه حسب الظروف وما يمكنه بذله"، واتجهت نفس المنحى المجلة الجزائية الاثيوبية لسنة 1957 والتي أعدها فقيه القانون الجزائي السوسري "جان كرفان"Craven » " « إذ أقرت بالفصل 59 في فقرته الثانية " يكون الفعل مستوجبا للعقاب عندما لم يتخذ الفاعل الاحتياطات التي يمكن توقعها بشكل معقول بالنظر إلى الظروف وحالته الشخصية وخاصة سنّه وخبرته وتعليمه ومهنته أو رتبته".
كما تأثر المشرّع الفرنسي بهذا الاتجاه الحديث فدعّم الصّبغة الذاتية للخطأ الجزائي غير العمدخلال التفرقة بين الإهمال الواعي والإهمال غير الواعي بمقتضى القانون المؤرخ في 10 جويلية 2000.
ذلك أنّالعقوبة تتدخّل لتقويم الإرادة المنحرفة، فالخطأ الجزائي هو مفهوم مشبع بالذاتية ولا يمكن تقديره بغضّ النّظر عن شخصية الفاعل . وبناء على ما سبق قوله فالالتجاء إلى التقدير الموضوعي ليس له مبرّر، لأن الأخذ بالظّروف الظاهرة حسب نموذج ربّ الأسرة الصالح يبتعد عن جوهر التقدير في المادة الجزائيّة الذي لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار الظّروف الدّاخليّة للفاعل والغوص في إرادته المنحرفة، وبالتالي ينبغي أن يكون التقدير ذاتيّا لا موضوعيّا. وهذا الاتجاه الحديث في تحديد الخطأ الجزائي يجد تأصيله في مبدأيحكم المادة الجزائية وهو تفريد العقوبة "individualisation de la peine"، فيقدر الخطأ الجزائي في محيطه النّفسي الذي ارتكب فيه .ويكون لحالة الشخص النّفسية والعقلية والبدنية وأيضا السنّ والجنس والعيوب الطبيعية والفكرية والحالة العاطفية دور في تقدير الخطأ. وحينئذ "فالمقارنة هنا تكون بين سلوك الشخص نفسه وبين ما كان ينبغي عليه أن يفعله على ضوء ظروفه الخاصّة حيث يتوافر الخطأ في جانبه متى كان قادرا على تجنب حدوث الفعل الضار بالنّظر لصفاته الشّخصيّة" . فلقيام القانون الجزائي بوظيفته الرّدعيّة، لا بدّ أن تكون العقوبة متماشية، لا فقط مع التصرّف الذي ينبغي على الشخص القيام به، بل أيضا مع ما كان ينبغي عليه القيام به، بالنّظر إلى الظّروف الحافة وشخصيته من خلال مؤهلاته وحدودها .فالتقدير الموضوعي الذي يخضع له الخطأ المدني لا يمكن الأخذ به عند النّظر في الخطأ الجزائي،فهذا الأخير لا يمكن تقديره بصفة مستقلّة عن فاعله وحالته النّفسيةلأنّ العكس يتجافى مـع الوظيفة الزّجريّة .
وقد يوجد عائق قانوني أمام التقدير الذاتي يتمثّل في إدراج المشرّع حالة موضوعية بحتة من بين حالات الخطأ الجزائي ، تتمثّل في مخالفة التّراتيب، وهي حالة يغيب فيها العنصر النّفسي إذ يقع تقدير الخطأ النّاجم عنها تقديرا موضوعيا بالمقارنة معما يمكن أن يقوم به شخص عادي ،فيكفي مخالفة القاعدة في حدّ ذاتها دون النّظر إلى سلوك الفاعل.
ولكن يجوز الرّدّ على هذا المأخذ بالقول بأنّ مخالفة التّراتيب قد تحتوي أحيانا على إهمال يستوجب تسليط عقوبة، وأحيانا أخرى فإنّ هذه المخالفة للتراتيب لا تحدث أي استياء اجتماعي كالوقوف في مكان يمنع فيه ذلك، وليس من داع لتسليط عقوبة جزائيّة. وفي هذا الإطار أكّد "بيروفانو"(PIROVANO) أنّ الإخلال بالتّراتيب، يجب أن تكون موضوعتخصيص شخصي لكـلّ فاعل ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بإتباع معيار التقدير الذاتي. واعتمد "بياش"(PUECH) نفس الرأي، فتمسك بأنّ اتباع طريقة التقدير الذاتي، وما فيها من أخذ بالظّروف النّفسية والجسمانية والشّخصيّة، تؤدّي إلى تفريد العقوبة اعتمادا على الخطأ الذي ارتكبه الفاعل.
ولقد ذهب القضاء في البعض من أحكامه إلى اعتماد طريقة التقدير الذاتية فالجراح الذي يهمل تنظيف معداته يعد مرتكبا لخطأ جزائي لأنّه " لا يخفى على من هو صاحب مؤهلات كالمتهم أن لا يتثبت من نظافة المعدات" .كما أكدت محكمة التعقيب أنّ " القفز من الأعلى في اتجاه مياه البحر عملية لا يأتيها صاحبها دون أن يتوقع حدوث خلل ينتهي لجرم ....وحيث أن قلة الاحتراز والحيطة هو أن يأتي شخص فعلا خطيرا يحتمل أن يترتب عليه آثار ولم يتخذ الاحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون تحقق الآثار" .
فالتقدير الذاتي يأخذ بعين الاعتبار ما قام به الفاعل، والعقوبة تناسب سلوكه، على خلاف طريقة التقدير الموضوعي إذ لا تستطيع القيام بدورها في تحديد العقوبة ،وبالتالي في عمليّة الزجر والرّدع. وهي طريقة تلبي ما يتطلّبه النّظر في الوعي بالخطر الذي ينبغي أن يكون لدى الفاعل، أي تدعيم العنصر النّفسي المكوّن للخطأ بالإهمال .وبناء على هذا الموقف يمكن الوصول إلى فكرة تدرّج الخطأ غير العمد.

الفقرة الثانية: تكريس تدرج في الخطأ الجزائي

ذهب جانب من الحقوقيين منذ القرن التاسع عشر إلى التّمييز بين درجة خطورة الخطأ الجزائي وشبه الجنحة المدنيّة ، فإذا كان الخطأ المرتكب تافها يقع الاكتفاء بإسناد التّعويض دون الحاجة لتسليط عقوبة جزائيّة . ولقد تمّ التأثر في هذا المجال بالتّمييز الذي أقامه القانون الروماني بين الخطأ الجسيم والخطأ اليسير والخطأ البسيط جدا . ولهذه التّفرقة دلالة توحي بأنّ العقوبة الجزائيّة لا تقرّر إلاّ للأفعال القابلة للزجر ،. ولقد طبّقت محكمة التّعقيب الفرنسية هذا التّمييز في وقت أقرّت فيه بازدواج الخطأين فاعتبرت أنّه "ينتمي لقضاة الأصل الحكم حسب ظروف الواقعة وخطورة الإهمال المثبت، تحديد إن كان هذا الإهمال يمثل جنحة أو مجرّد خطأ لا يفتح الطريق إلاّ لدعوى مدنيّة لتعويض الضّرر" . فالخطأ غير العمد يمكن أن يتدرّج من حيث الأهمّية بحسب توقّع الفاعل للنتيجة الحاصلة من عدمه .
بيد أنّ التّفرقة الواقعة بين الخطأين تمّ إبعادها بصفة صريحة من قبل محكمة التّعقيب الفرنسية في قرارها المبدئي الصّادر سنة 1912 حيث ذكرت بأنّه "لا أثر لتفاهة الخطأ المرتكب إلاّ تخفيف العقوبة" . كما تبيّن أنّ معيار التّفرقة الذي تمسّك به الفقه غير حاسم لأنّه لم يضبط كيفية تحليل الفعل موضوع النّزاع، فلم تتّضح درجة الخطورة الّتي معها يصبح الفعل المرتكب عرضة للمؤاخذة الجزائيّة . و من ثمّ افتقدت التّفرقة بين الخطأين لمعيار يخوّل تقدير درجة خطورة الفعل المرتكب. و لا تمنع هذه المآخذ من الردّ بأنّ دور القاضي الجزائي يكمن في تقدير العنصر النّفسي للفعل غير المشروع، ولا يكون ذلك إلاّ بإتباع طريقة التقدير الذاتية، فيحدّد درجة خطورة الفعل المرتكب من خلال عمليّة التقدير الّتي سيقوم بها .فيسلّط العقوبة المناسبة لتحقيق وظيفتها الزجرية، وبالتالي على القاضي الجزائي أن يعمد إلى تجاهل الأخطاء البسيطةجدّا، والتي تقتضي فحسب الحصول على التّعويض، وهي ينبغي أن تكون من أنظار القاضي المدني.
وإلى جانب ما تقدّم لاحظ جانب من الفقه أنّ تكاثر الأخطاء غير العمدية بصفة جليّة في الوقت الحالي، يدفع إلى إقامة تفرقة بين الخطأ الواعي والخطأ غير الواعي . و يتمثل الخطأ الواعي في توقّع إمكانيّة حصول النّتيجة الضارة من قبل مرتكبه ، إذ يعكس هذا الخطأ حالة نفسية من الفاعل ، ممّا يستدعي لجوء القاضي الجزائي إلى المعيار الذّاتي لتقدير هذا الصّنف من الخطأ.
أمّا الخطأ غير الواعي فيتمثل في أنّ الإرادة لم تتّجه لارتكاب الفعل ولا إلى حصول النّتيجة الضارة، فالخطأ المرتكب لم يكن قصديّا ولا إراديّا ، ورغم ذلك كان بإمكان الفاعلتوقّع حصوله بالنّظر إلى الظّروف الحافّة بالواقعة وكذلك خصائصه الشّخصيّة . ويتجلّى ممّا سلف أنّ الخطأ غير الواعي لا يعكس حالة نفسية آثمة كما هو الشأن لصورة الخطأ الواعي، و في إطاره يهتمّ القاضي الجزائي بتقدير ما كان ينبغي على الفاعل القيام به . واعتمادا على ذلك يخوّل قيام الخطأ غير الواعي طلب التّعويض فحسب دونما حاجة لإلحاق عقوبة جزائيّة بالفاعل على خلاف حالة الخطأ الواعي. ووفق هذه التّفرقة يسترجع العنصر المعنوي أهمّيته ضمن عمليّة الزّجر.
ولقد أعرب أحد الشّرّاح عن نقائص هذا التّمييز لأنّ الخطأ غير الواعي يدخل تحت طائلة العقاب الجزائي كلّما ارتبط بنتيجة ضارّة ، كالسّائق الذي لم ينتبه لاشتعال الضّوء الأحمر فيصدم مترجّلا، وذهبت محكمة التعقيب إلى القول أنّ " عدم التوقع لا يرفع عن المتهم عدم احتياطه وانطباق جريمة الفصل 217 من م. ج." وهذا الوضع يثبت صعوبة إقامة هذه التّفرقة، فالمعيار الفاصل بين الخطأ الواعي والخطأ غير الواعي يبدو أنّه غير كاف، فالوعي ليس المعيار المحدّد دائما للتجريم كما أنّ عدم الوعي ينمّ أحيانا عن انحراف لا ينبغي تجاهله جزائيا . ولكنّ هذه الصّعوبة لا تقلّل من أهمّية اعتماد هذا التقسيم لأنّه يبرز عدم ارتباط العقوبة بالنّتيجة الحاصلة بل يكون للدّور الذي لعبته الإرادة أثر هام في تحديدها، فالمحتوى النّفسي مختلف .
ولم تمرّ هذه النقاشات الفقهية دون تأثير على المشرّع الفرنسي، فقد مهّدت السبيل لإعادة النّظر فـي مكوّنات الخطأ الجزائي. وبصدور المجلّة الجزائيّة الفرنسية الجديدة ، قام المشرّع بتنقيح الفصلين 319 و320 من المجلّة القديمة، واعتبر أنّ الخطأ الجزائي يتمثّل، من ناحية في الإهمال وعدم الانتباه والإخلال الواعي بالالتزام بالسلامة، أو بالحذر الذي يفرضه القانون والتّراتيب ،كما يعد خطأ جزائيا من ناحية ثانية الوعي بتعريض ذات الغير لخطر ، إذ يسأل جزائيا من عرّض الغير لخطر واع بغض النظر نتائج ذلك الفعل على السلامة الجسدية للأشخاص .
ولقد تمثّل هدف المشرّع في التّمييزبين الدرجات المختلفة للخطأ الجزائي غير العمد، معتمدا على العنصر النّفسي للخطأ لأنّ "الإهمال لا ينشأ دائما من نفس المسار النّفسي، فهناك أخطاء تتميّز بمعيار الخطورة الشّخصيّة" .لهذا يمكن القول إنّ المكوّن النّفسي للخطأ الجزائي غير العمد يشمل نوعين، من ناحية الخطأ بالإهمال أو الاهمال غير الواعي ومن ناحية ثانية خطأ جزائي واع. في مرتبة بين الإهمال والخطأ القصدي "fauteintentionnelle" وهي درجة جديدة من الخطأ . فالوعي بالخطأ لا يعني أنه ارتكب عن قصد " لأنّ إرادة إغفال السلوك الواجب في سبيل منع حدث أو أمر ما، ليس معناها بالضرورة انعقاد النية على تحقيق هذا الحدث أو الأمر أو تأييد الإرادة لتحققه" ، إذ يضاف لقيام القصد انعقاد تحصيل النتيجة أيضا.
ثم أضاف المشرّع الفرنسي بمقتضى قانون 13 ماي 1996 فقرة جديدة للفصل 121-3 أقصى بموجبها الأخذ بالإهمال في صورة توفّر الحذر العادي حسب الظّروف الحافّة . وبمقتضى هذه الدّرجات المختلفة للخطأ الجزائي تختلف العقوبة اللاّحقة بالفاعل، وهكذا تغيّر دور الخطأ إذ "لم يعد الأمر مقتصرا على تتبّعه جزائيّا، بل أصبح أيضا معيارا لتقدير العقوبة اعتمادا على طبيعته الواعية أو غير الواعية" . لأنّ جسامة الاهمال الواعي هي أشد من جسامة الاهمال غير الواعي بما يترتب عنه ضرورة تناسب العقوبة مع العنصر النفسي.

و يؤدّي الاتّجاه الذاتي الذي توخّاه المشرّع الفرنسي في المادّة الجزائيّة إلى تغيير طريقة تقدير الخطأ مما يتناسب أكثر مع المفاهيم الأساسية للقانون الجزائي. فعند القيام بعمليّة التقدير يأخذ القاضي بعين الاعتبار تصرّف الشخص كمعيار مميّز بين هذه الأصناف من الأفعال الضّارة . إذ يتعيّن على القاضي الجزائي عند تطبيق الإخلال بالسّلامة المفروضة من القانون والتّراتيب أن يحدّد إن كان هذا الإخلال واع أم غير واع. فينبغي القيام إذن ببحث نفسي وذاتي حتى في هذه الصورة والتي يكون التجريم فيها موضوعيّا. فمعيار الزجر لا بد أن يقع البحث عنه في نفسية الفاعل وخطورته . وما سلف يبيّن أنّه بالإمكان إقصاء مستند الفقه المناصر لوحدة الخطأين، الذي يعتبر أنّ حالة عدم مراعاة التّراتيب تفرض بالضّرورة معيارا واحدا لتقدير الخطأ بالإهمال على غرار شبه الجنحة المدنيّة والمتمثّل في طريقة التقدير الموضوعي.
ورغم التّغيير الذي أحدثته المجلّة الجزائيّة الفرنسية الجديدة فهي لم تتخلّ عن استعمال مصطلح الإهمال الذي يجيز إيقاع العقاب على الخطأ البسيط جدّا، و هذا من شأنه أن لا " لا يزيل الخوف كلّيا من استمرار مبدأ الوحدة" بين الخطأين الجزائي والمدني. إلاّ أنّ هذا الخوف قد يتبدّد مع تأكيد المشرّع الفرنسي لخياره المتمثّل في إقامة التّمييز بين الخطأ الجزائي غير العمد وشبه الجنحة المدنيّة، حيث أضاف بمقتضى قانون 10 جويلية 2000 إلى مجلّة الإجراءات الجزائيّة الفصل الرابع–1 و الّذي ورد فيه "إنّ غياب خطأ جزائي غير عمدي على معنى الفصل 121-3 من المجلّة الجزائيّة لا يمنع من القيام بدعوى أمام المحاكم المدنيّة للحصول على تعويض الضّرر على أساس الفصل 1383 من المجلّة المدنيّة إذا وجد خطأ مدني حسب ما اقتضاه هذا الفصل" . ولقد أكّد العديد من الشّرّاح أنّ "هذا القانون يمثل رجّة حقيقية لمبدأ وحدة الخطأين" . كما يؤدّي إلى تضييق قاعدة حجّية الجزائي على المدني لعدم وجود إمكانيّة التّعارض بين الحكمين الجزائي والمدني عند صدور حكم قاض بالبراءة .
واعتبر الأستاذ "برادال"(PRADEL) أنّ المسألة تتعلّق بتقدير مختلف للعلاقة السّببيّة ، فإذا كانت هذه الأخيرة غير مباشرة، ازدادت أهمّية العنصر النّفسي لقيام المسؤولية الجزائية، فالخطأ ينبغي أن يكون جسيما لقيامها على خلاف المسؤوليّة المدنيّة التّي يكفى لقيامها وجود الخطأ البسيط جدا.
ويتبين وعي المشرّع الفرنسي بمساوئ نظريّة وحدة الخطأين،ويمكن القول إنّ ما قام به ليس سوى تكريس لفقه القضاء الفرنسي الذي ساد قبل اعتماد نظريّة وحدة الخطأين، إذ كان مفهوم شبه الجنحة مغايرا تماما لمفهوم الخطأ الجزائي غير العمد ، وهو ما أقرّه فعلا فقه القضاء إثر صدور هذا القانون
وهذا الموقف جدير بالإتّباع من قبل المشرّع التونسي للفصل بين الخطأين الجزائي والمدني في جانبهما غير العمد، إذ لا يكفي المناداة بتكريسه قضائيّا لأنّ المادّة الجزائية تخضع لمبدأ الشّرعية. ولذلك يتعيّن عليه إبراز مختلف درجات الخطأ الجزائي غير العمد بالاعتماد على العنصر المعنوي ليساهم بهذا التّحديد في دعم الوظيفة الزّجرية للمسؤولية الجزائية تناسقا مع ما أكّده الفصل 19 من المجلة الجزائية الذي يختزل روح المجلة في أن تكون مجلة مواكبة لتطورات المسؤولية الجزائية.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.tahalabidi-avocat.fr.gd
 
الخطأ الجزائي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» انعدام صفة القائم بالحق الشخصي في قضية جنائية و اثارها على الدائرة الشغلية
» القانون الجزائي
» في القانون الجزائي الإداري التونسي
» المسكن في القانون الجزائي ابتسام جبابلي
» قانون أصول المحاكمات الجزائي الأردني للتحميل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: 1-1- بحوث عامة في القانون التونسي :: أبحاث و مقالات و ملتقيات-
انتقل الى: