جامعة تونس المنار
كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس
الجمعية التونسية للقانون الجنائي
مخبر فض النزاعات وطرق التنفبذ
ملتقى حول :
مائوية المجلة الجزائية :
الماضي، الحاضر، المستقبل
عنوان المحاضرة : الإشكاليات القانونية في جرائم الاستيلاء على الأموال العمومية
المحاضر : فتحي الماجري: المستشار لدى محكمة التعقيب
تحتاج الإدارة في إدارتها للمرافق العامة والمؤسَسات العمومية إلى أموال مُتنوعة منها الثابت ومنها المنقول, وقد تكون هذه الأموال خاصة أو عامة. فالأموال الخاصة هي تلك الأموال التي تملكها الدولة أو المُؤسسات الإدارية بغرض استغلالها والحصول على ما تُنتجه من موارد مالية وهي تُماثل تلك التي يملكها الأفراد. لذا، فهي تخضع من حيث اكتسابها واستغلالها والتصرف فيها لأحكام القانون الخاص. أما الأموال العامة فهي أموال تخصَص للنَفع العام أي لاستعمال العموم (الجمهور) مُباشرة أو لخدمة مرفق عام، فهي بذالك تستهدف غرضا يخالف ذلك الذي يحكم الأموال الخاصة في القانون المدني. وبذلك، وجب إرساء نظاما قانونيا لحماية المال العام عن طريق عدم جواز التصرف فيه أو حجزه أو تملُكه بالتقادم.
ومن البديهي أن الدَولة والمُؤسسات العُمومية حتى تتمكن من القيام بوظائفها كاملة لابدَ من أن تتوفر لها الوسائل المادية اللازمة لتدبير مرافقها، لكن في نفس الوقت يتعين إحاطة هذه الأموال بحماية صارمة وهو ما يعرف بحماية المال العام.
ويحدُث أن يكون هذا المال موضوع استيلاء فقد أحجم المُشرع على تعريف الاستيلاء في المجلة الجزائية إلا أن مجلة الحقوق العينية (م.ح.ع) اقتضت في فصلها الرابع والعشرين (24) أنه: " وضع اليد بنية التملك على منقول لا مالك له ". والاستيلاء هو سبب من أسباب اكتساب الملكية طبق الفصل 22 من م.ح.ع وهو: " وضع اليد على ملك الغير بقصد تحويل ملكيته إلى ذمَة واضع اليد ".
وعرف الفقهاء جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية بأنَها :" كل استخلاص أو أخذ أو مُخالفة أو اختلاس أو سوء تصرف أو تحويل أموال عمومية من طرف موظف عمومي أو شبهه أو أي شخص ممن عددهم القانون حصرا وُضعت تحت يده بحكم وظيفه ( نجاة العرقي : "الحماية الجزائية للمال العمومي من خلال المجلة الجزائية" مذكرة الماجستير في العلوم الجنائية لسنة 2008/2009).
أورد المشرع التونسي جرائم الاستيلاء على الأموال العمومية بالباب الثالث من المجلة الجزائية تحت عنوان: " في الجرائم المرتكبة من الموظفين العموميين أو أشباههم حال مباشرة أو بمناسبة مباشرة وظائفهم". وجاء تعريف الموظف في القسم الأول الذي تضمن فصلا وحيدا : الفصل82 وعالج في القسم الثاني جرائم الارشاء والارتشاء ضمن الفصول 83/84/85/87 مكرر/88/89/90/91/92/93/94 وأُلغي الفصل 86 بموجب القانون عدد 33 لسنة 1998 المؤرخ في 23ماي1998. أما القسم الثالث فقد اهتم ب: "الاختلاس من قبل الموظفين العموميين أو أشباههم " بمقتضى الفصول 95/96/97/97 مكرر و98. أما القسم الرابع بفصليه 99/100 فقد خصَصه : " للاختلاسات التي يرتكبها المُؤتمنون العموميون".
إن الجرائم الواردة بالباب الثالث بأقسامه يستقل بها الموظف العمومي أو شبهه الوارد تعريفه بالفصل 82 من المجلة الجزائية الذي ينصص بعد تنقيحه بالقانون عدد33 لسنة 1998 على أنه:" يُعتبر مُوظفا عُموميا تنطبق عليه أحكام هذا القانون كل شخص تعهد إليه صلاحيات السُلطة العمومية أو يعمل لدى مصلحة من مصالح الدولة أو جماعة محلية أو ديوان أو مُؤسسة عُمومية أو منشأة عمومية أو غيرها من الذوات التي يُساهم في تسييرها مرفق عُمومي. ويشبَه بالمُوظف العمومي كل من له صفة المأمور العمومي ومن انتُخب لنيابة مصلحة عمومية أو من تُعينه العدالة للقيام بأمور قضائية ".
إلا أنه من وجهة المدلول الجنائي لفكرة المُوظف فإن أغلب التشريعات الجنائية لم تتبن المفهوم الإداري للموظف العمومي، ذلك أن القانون الإداري يأخذ بمعايير ثابتة ومستقرة وهو بذلك يضيَق من حلقة المُوظفين العُموميين عكس القانون الجنائي الذي يأخذ بتعريف واسع وشامل يتفق وسياسة التجريم. وإذا كان كل من يُعتبر موظفا عموميا في القانون الإداري هو كذلك في القانون الجنائي، فإن بعض الأشخاص لا يُعتبرون موظفين عُموميين في القانون الإداري. فالنَظرية الجنائية لتعريف المُوظف تشمل الإدارية لكن دون أن تقف عندها أي تتعداها. ويُمكن القول أنه لا يُوجد تعريف مُوحد للمُوظف العُمومي في الفقه والقانون الجنائي على أن جُلَ التعاريف تكاد تتفق فيما بينها على بعض الخصائص الأساسية.
بقراءة النصوص القانونية الخاصة بجرائم الاستيلاء على الأموال العمومية تبرز بعض الإشكاليات خاصة في الجانب التطبيقي منها ما يتعلق بصفة الأشخاص محل المؤاخذة( المبحث الأول) وأجرى تتعلق بالأركان القانونية لبعض الجرائم المذكورة (المبحث الثاني).
المبحث الأول : الإشكاليات القانونية المتصلة بالأشخاص محل المؤاخذة.
توسع المُشرع بموجب التنقيح الذي أجراه على هذا الباب الثالث من المجلة الجزائية بموجب القانون عدد 85 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985 في قائمة الأشخاص موضوع المؤاخذة وذلك بإضافة :" كل مُدير أو عُضو أو مُستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العُمومية المحلية".
وحيث أدرج هذا التوسع خاصة في الفصل 96 من المجلة الجزائية الذي أصبح من ناحية التطبيق الفصل المعتمد عموما في قرارات فتح البحث وقرارات دوائر الاتهام بالإحالة على الدوائر الجنائية الابتدائية للمحاكمة إثر ثورة 17 ديسمبر2010/ 14 جانفي 2011.
لقد أراد المشرع أن يجعل من هذا الفصل آلية ناجعة لحماية المال العام، إذ أن مضمونه يحتوي على ما لا يقل عن ستة جرائم سوف نتعرض إليها لاحقا ( البعض يرى أربعة جرائم فقط مثل الأستاذ فرحات الرَاجحي ). ومن خلال الإحالات على محاكم الحق العام، يُلاحظ أنه إلى جانب الموظفين العموميين الوارد تعريفهم بالفصل 82 من المجلة الجزائية، فإن التوسع المشار إليه آنفا شمل رئيس الجمهورية والوزير وتمَ حشرهما في زمرة هؤلاء الأشخاص مما يثير إشكالية قانونية هامة. فالموضوع يتعلق بمؤسسات قانونية يصنفها القانون الدستوري والقانون الإداري والتي ظلت مستثناة منذ أمد بعيد، ولم تبرز إلى محاكم الحق العام إلا بعد شهر جانفي 2011.
القسم الأول: الإشكال القانوني الخاص برئيس الجمهورية
بالإطلاع على القرارات الصادرة في هذه الفترة يتبين وأن محاكم الموضوع اعتبرت أن رئيس الجمهورية له صفة الموظف العمومي وجارتها محكمة القانون في هذا التمشي. وباعتبار أن رئيس الجمهورية السابق كان بحالة فرار، لم يكن للسان الدفاع المجال لبيان أن صفة الموظف العمومي لا تنطبق على رئيس الجمهورية إلا في بعض القضايا المحدودة العدد الـتي أمكن فيها للسان الدفاع التمسك بما ذُكر باعتبار أن منوبيهم متهمُون بمُشاركة الفاعل الأصلي في اقتراف الجرم المنسوب إليه، فكان لابد من مناقشة الفعل المُجرَم للفاعل الأصلى حتى يتسنى الدَفاع ورد تهمة المشاركة.
إن التمشي في هذا المنحى واعتبار رئيس الجمهورية موظفا عموميا يمس بالقانون الدستوري.فرئيس الجمهورية يتمتع بسلطة من نوع خاص تجعله فوق كُل السَلط الأخرى . ذلك أن الفصل 49 من دستور الجمهورية التونسية الساري المفعول زمن اقتراف الجرائم المنسوبة لرئيس الجمهورية ينصص على أن رئيس الجمهورية : " يُوجه السياسة العامة للدولة ويضبط اختياراتها الأساسية ". كما يضيف الفصل 63 مايلي : " يمكن لرئيس الجمهورية حلَ مجلس النُواب "، ويقتضي الفصل 64 أن : " الأحكام تصدُر باسم الشعب وتُنفذ باسم الشعب ". كما اقتضت الفقرة الأولى من الفصل 41 أن : " رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال الوطن وسلامة تُرابه ولاحترام الدُستور والقانون ولتنفيذ المعاهدات وهو يسهر على السير العادي للسُلط العمومية الدُستورية ويضمن استمرار الدولة ". ويُفرد الفصل 48 من الدُستور والفصل 372 من مجلة الإجراءات الجزائية رئيس الجمهورية بحق العفو الخاص.
وفي قراءة لجملة هذه الفصول القانونية الواردة بالدُستور الذي يعتبر أعلى قاعدة قانونية في سُلم القوانين أن رئيس الجُمهورية هو مصدر السُلطة العُمومية وليس جزء منها أو مُتعهدا بالسُلطة وبالتالي لا يُمكن في أي حال من الأحوال اعتباره مُوظفا عُموميا على معنى التعريف الوارد بالفصل 82 من المجلة الجزائية. فالساهرُ على الشيء لا يُمكن أن يكون جزء منه. وحيث يُخلص من مُقتضيات مُختلف فُصول الدُستور المُحددة لمهام رئيس الجُمهورية أن له من السُلطات ما يتعذر وضع حدَ لها قانونيا ودستوريا بل له من الصلاحيات التي ينفرد بها كما أسلفنا.
وفي تبويبها المعتمد، استثنت المجلة الجزائية رئيس الجُمهورية عن المُوظفين. ذلك أنه في خصوص جرائم الاعتداء على ذات رئيس الجُمهورية، فقد وردت في الباب الثاني من الجزء الأول من الكتاب الثاني وكان عنوان الباب : " في الاعتداء على أمن الدولة الداخلي "، وكان عنوان الباب الذي سبقه : " في الاعتداء على أمن الدولة الخارجي "، بينما ورد الاعتداء على المُوظف في القسم الثاني من الباب الرابع بعنوان : " في هضم جانب الموظفين العموميين وأشباههم ومقاومتهم بالعنف ". فقد اقتضى الفصل 64 من المجلة الجزائية أنه : " يعاقب بالسجن مدة خمسة عشر عاما وبخطية قدرها مائة وعشرون ألف دينارا (120000د) من يرتكب كل اعتداء على ذات رئيس الدولة"، وفي المقابل جاء بالفصل 127 من نفس المجلة وفي باب آخر خاص بالاعتداء على الموظفين أنه : "يعاقب بالسجن مدة عام وبخطية قدرها اثنان وسبعون دينارا (72د) كل من يعتدي بالضرب الخفيف على معنى الفصل 319 من هذه المجلة (عنف خفيف) على مُوظف عمومي أو شبهه حال مُباشرته لوظيفه أو بمُناسبة مُباشرتها، ويكون العقاب مُدة خمسة أعوام وبخطية قدرُها مائتان وأربعون دينارا (240د) إذا كان العنف من النَوع المُقرر بالفصل 218 من هذه المجلة (عنف شديد مُجرد)، وفي هذه الصورة وإذا كان هناك سابقية قصد في ارتكاب العُنف (عُنف شديد مسبوق بإضمار) أو تسبب عن الضرب جروح أو مرض أو كان الاعتداء واقعا بالجلسة على موظف بالنظام العدلي فالعقاب يكون بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية قدرها أربعمائة وثمانون دينارا (480د) دون أن يمنع ذلك من تطبيق العقوبات المقررة بالفصل 219 من هذه المجلة عند الاقتضاء ".
وبناء على ما ذكر فإن المشرع أفرد رئيس الجمهورية بنُصوص خاصة لمَا يتمُ الاعتداء عليه فلا يجوز اعتباره موظفا إلا أن المحاكم اعتبرته كذلك مع الأسف.
القسم الثاني : الإشكال القانوني الخاص بالوزير
اعتبر فقه القضاء في الفترة الأخيرة أن الوزير مُوظفا عُموميا وفي ذلك اعتداءٌ صارخٌ على القانون الدُستوري والقانون الإداري شأنه شأن رئيس الجُمهورية، حيث جاء بالفصل 58 من الدُستور المُنطبق زمن الوقائع مما يلي : " تسهر الحُكومة على تنفيذ السياسة العامة للدَولة طبقا للتَوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية" وأشار الفصل 59 من نفس الدُستور أن : "الحكومة مسؤولة عن تصرفها لدى رئيس الجمهورية".
ويُستنتج مما سبق بيانه، أن منصب الوزير هو منصب سياسي بامتياز لا يخضع بأي حال من الأحوال للنظام القانوني المنطبق على الوظيفة العمومية سواء من حيث التعيين أو العزل وكذلك المهام الموكولة له باعتباره يخضع للسُلطة المباشرة للوزير الأول ورئيس الجمهورية ومُلزم بالإمتثال لأوامره.
أقرت محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 01 فيفري 2012 تحت عدد 88797/88818 أن الوزراء، أعضاء للحكومة لا يخضعون لقضاء الحق العام وإنما يرجعون بالنظر لقضاء المحكمة العليا. ولقد جاء بالقرار المذكور ما يلي: " ولئن كانت المحكمة العليا لازالت قائمة منذ إحداثها بموجب القانون عدد 10 لسنة 1970 المؤرخ في 01 أفريل 1970 لمحاكمة أحد أعضاء الحكومة أنذاك إلا أنها محكمة إستثنائية وتختص بالنظر في جريمة الخيانة العظمى التي تتكون :
أولا: بالاعتداء على أمن الدولة. ثانيا: بتجاوز حدود السلطة عمدا أو بصورة مضرة أو القيام بأعمال خارقة للدستور أو الضار بالمصالح العليا للوطن. ثالثا: بالإقدام عمدا على مغالطة رئيس الدولة...المرتكبة من أحد أعضاء الحكومة دون رئيس الجمهورية..."
وحيث يتضح من هذا القرار التعقيبي المشار إليه أن الوزير لا يتمتع بصفة المُوظف ولا يرجع بالنظر إلى محاكم الحق العام، فطبيعة المهام التي يضطلع بها الوزير لا تنسجم مطلقا مع تعريف الموظف العمومي الوارد بالفصل 82 من المجلة الجزائية.
إن هذا القرار جاء يتيما ولم تتبعه بقية الدوائر بمحكمة التعقيب، علما وأنه صدر في نفس الفترة التي صدرت فيها القرارات التي أضفت صفة الموظف العمومي على الوزير. ومع الأسف لم تصدر قرارات أخرى في هذا الإتجاه باعتبار أن الدائرة التي أصدرت ذلك القرار الوحيد انصهرت في دائرة أخرى في تنظيم داخلي للعمل.
ومن الناحية الهيكلية نلاحظ أنه يعتبر موظفا عموميا على معنى الفصل 82 من المجلة الجزائية كل شخص: "يعمل لدى مصلحة من مصالح الدولة أو جماعة محلية أو ديوان أو مؤسسة عُمومية أو منشأة عمومية أو غيرها من الذوات التي تساهم في تسيير مرفق عمومي".
إن عبارة " يعمل لدى " توحي بحالة التبعية الإدارية التي يكون عليها الموظف العمومي بالنسبة للإدارة التي يعمل بها وهو ما يفسر ما ورد بالفصل 95 من المجلة الجزائية أنه: " يُعاقب بالسجن مُدة...الموظفون العموميون وأشباههم الذين يأخذون أموالا باطلا وذلك بأن يأمروا باستخلاص أو يقبضوا أو يقبلوا ما يعرفون عدم وجوبه أو يتجاوز المقدار الواجب للإدارات المنتسبين إليها ".
ومن جهة أخرى فإننا يمكن لنا أن تستمد حُجة عدم تطبيق الفصل 82 من المجلة الجزائية على الوزير من القانون عدد 112 لسنة 1983 المؤرخ في 12 ديسمبر 1983 المُتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات ذات الصبغة الإدارية. ولقد حدد الفصل الأول مجال انطباقه بما يلي: " ينطبق هذا النظام الأساسي العام على جميع الأعوان المستخدمين بأي عنوان كان بالإدارات المركزية للدولة والمصالح الخارجية التابعة لها أو الجماعات العمومية المحلية أو المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية، ولا ينطبق هذا النظام على رجال القضاء والعسكريين وعلى قوات الأمن الداخلي وأعوان المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية الذين يخضعون إلى نصوص متميزة..." ويحدد هذا القانون المسار الوظيفي للعون العمومي ونظام التأجير والعطل والنظام التأديبي والتقاعد والترقية. وجاء بالفصل 16 من القانون المذكور أنه: "يكون الموظف تجاه الإدارة في حالة نظامية وترتيبية "، وينتمي الموظف إلى سلك يشتمل على رتبة أو أكثر ويقع ترتيب الموظف حسب مستوى انتدابه ضمن صنف معين.
وبذلك فإن جميع ما تضمنه هذا القانون لا يتلاءم مع منصب الوزير ولا يتوافق مع طبيعة المهام المسندة له والمحددة بالدستور. وعليه، لا يجوز اعتباره موظفا عموميا أو شبه مُوظف بما يجعل رُكن الصفة غير متوفر لتطبيق الفصول الخاصة بالاستيلاء على الأموال العمومية.وبذلك وطالما لم يقع إبطال العمل بالقانون عدد 10 لسنة 1970 المؤرخ في 01 أفريل 1970 فإن الوزير لا يُحاكم إلا بمُوجب هذا القانون الذي أحدث المحكمة العليا وذلك طبقا للشروط الواردة بذلك القانون.
المبحث الثاني : الإشكاليات القانونية المتعلقة بالأفعال المجرمة
من الناحية التطبيقية وتبعا للقرارات الصادرة عن محكمة التعقيب سواء كانت طعنا في قرارات دوائر الإتهام أو في قرارات صادرة في الأصل، فإن أهم الإشكاليات برزت بمناسبة تطبيق الفصل 96 من المجلة الجزائية. فلا يكاد يتغيب عن أي قضية التي تم نشرها إبان أحداث جانفي 2014 والحال أنه كان مهجورا قبل ذلك التاريخ.
ورد الفصل 96 من م.ج في الباب الثالث من المجلة الجزائية في قسمها الثلث بعنوان : " في الإختلاس من قبل الموظفين العموميين أو أشباههم " وقد شمله تنقيح القانون عدد 85 لسنة 1985 المؤرخ في11 أوت 1985. ويطرح الفصل 96 على المستوى النظري عديد الإشكاليات تتعلق بموضوع الجرائم الواردة به والأشخاص المعنية والعقاب.
اما على المستوى التطبيقي فله أهمية بالغة باعتباره يهتم بظاهرة اختلاس أموال الدولة والذي اشتدت أهميته في وقتنا الحاضر فأصبح نصا لمحاسبة رموز الفساد، يتطرق إلى النظام القانوني لجريمة استغلال الموظف العمومي أو شبهه لصفته للإضرار بالإدارة عن طريق استخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره وعن طريق مخافة التراتيب كذلك.
واشتمل الفصل 96 على ستة جرائم وهي : - استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس. - استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير. - استغلال الصفة للإضرار بالإدارة. - مخلفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس. - مخلفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير. - مخلفة التراتيب للإضراربالإدارة. وتبعا لما تقدم فلا مجال للتتبع إذا ما ثبت عدم توفر العناصر التالية: 1- استغلال الصفة، 2- مخالفة التراتيب، 3- تحقيق فائدة لاوجه لها، 4 –الإضرار بالإدارة، 5- توفر القصد الجنائي.
إن أهم الإشكاليات التي طرحت أمام محاكم القضاء من بين العناصر الستة المعددة آنفا تتعلق بمخالفة التراتيب والإضرار بالإدارة. ولقد أبدت محكمة التعقيب رأيها في ذلك من خلال عديد القرارات وأهمها القرار عدد 1141 الصادر عن الدائرة الرابعة عشر في 09/10/2013 ويعتبر من القرارات المتميزة في تأويل القانون. فقد بينت من خلاله محكمة القانون المعنى القانوني للتراتيب ( حسب موقفها ) والإضرار بالإدارة. فعالجت الضرر بفرعيه المادي والمعنوي. وتتمثل وقائع هذه القضية في تقديم شكاية إلى وكالة الجمهورية عن طريق محام، مفادها أن الطاعن في القضية يملك عقارا بجهة حلق الوادي أقام عليه مطعما والمعروف بمطعم المقهى الأخضر"café vert ". وتولى استغلاله وكوَن شركة بمعية أصهاره. وبعد مدة حصل خلاف بينهم وفوت في مناباته في الشركة وأقام مطعما آخر في العقار الذي كان في الواجهة وشرع في استغلاله. إلا أنه تراءى له أن يُهدم مطعم المقهى الأخضر ليعيد البناء، وتقدم لبلدية المكان بمطلب للحصول على رخصة في الهدم. وحتى يتولى إعداد الملف تحصل على شهادة إبراء لسنة 2010 من البلدية لمطعم المقهى الأخضر، وهي شهادة خلاص مستغلا لأصل التجاري للمعاليم البلدية الموظفة على عقار. فالشاكي يدعي أن الوثيقة خاصة بالمطعم وصاحب الأصل التجاري وقد تحصل عليها المشتكى به باستعانة المدعو محمد عماد الطرابلسي صهر الرئيس السابق بوصفه رئيس بلدية حلق الوادي زمن الوقائع .وبعد انتهاء الأعمال الإستقرائية وجهت دائرة الإتهام على المشتكى به ورئيس البلدية السابق تهمة الفصلين 82و 96 م.ج وإضافة للفصل 32م.ج الخاص بالمشاركة. وقد تمثل الإشكال القانوني في معرفة إن كان تسليم تلك الوثيقة لغير مالك الأصل التجاري يُمثل مخالفة للتراتيب.
القسم الأول : المفهوم القانوني للتراتيب
عرف الفُقهاء النصوص الترتيبية بكونها تتضمن قواعد عامة مُحددة ومُلزمة صادرة عن الإدارة، ويتم تصنيفها حسب ترتيب تفاضلي في هرم القواعد القانونية تعتمد معيار السلطة التي اتخذت القرار والإجراءات التي اتُبعت لإصداره. وعلى هذا الأساس نجد في المرتبة الأعلى في سلم القواعد الترتيبية : الأوامر ذات الصبغة الترتيبية التي يتخذها رئيس الدولة ثم القرارات الترتيبية الصادرة عن الوزراء ثم قرارات الولاة ورؤساء البلديات وبقية السلط الإدارية الأخرى.
ونجد تراتيب تطبيقية تُتخذ لتنفيذ القوانين وصنف ثان يُعرف بتراتيب مُستقلة عن القانون تُتخذ في شكل أوامر ترتيبية. وتدخل في المجالات الخارجية عن المجال القانوني كما حدَده الفصل 35 من الدُستور الساري المفعول زمن الوقائع. وبناء على هذا التعريف يُمكن لنا أن تستنتج أن للنصوص الترتيبية ما للقاعدة القانونية من أحكام فهي مُجردة ومُلزمة.
ترى محكمة التعقيب أن الشهادة الإدارية المتمثلة في شهادة خلاص مستغل للأصل التجاري للمعاليم البلدية الموظفة على عقار، هي شهادة معاينة لواقع معين تشهد الإدارة التي سلمتها بصحة محتواها. ولا يُوجد أي نص ترتيبي أو قانوني يمنع مالك العقار من الحصول عليها بالطريقة العادية، وفي أقصى الحالات تُسلم بموجب إذن على العريضة في صورة امتناع الإدارة عن تسليمها.
وفي نفس الإتجاه أكدت ذلك محكمة القانون عن نفس الدائرة التعقيبية في قرارها عدد9161 الصادر في 12 جوان 2013. فكانت الوقائع تتعلق بوزيرين سابقين تعاقبا على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي واتُهما بالقيام ببعض التجاوزات والتدخلات المُنظمة على مستوى عمليات التوجيه الجامعي لتمكين البعض من الناجحين في امتحان الباكالوريا من الحُصول على بعض الشُعب الجامعية وخاصة منها شُعبة الطب بولايات تونس وسوسة والمُنستير خلافا للصيغ الجاري بها العمل، ودون أن يكون لهؤلاء المستفيدين من تلكم التدخلات حائزين على الحاصل العام المطلوب، وذلك على حساب بعض الطلبة الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية المطلوبة وعلى حساب طاقة الاستيعاب القصوى والمضبوطة بصفة مسبقة قبل بداية السنة الجامعية، وفي ذلك مخالفة للدليل الجامعي والذي اعتبرته دائرة الإتهام من قبيل التراتيب. وكان موقف محكمة القانون على النحو التالي : " وحيث خلافا لما ذهبت إليه دائرة القرار المنتقد فإن الدليل الجامعي لا يمكن أن يرتقي إلى مرتبة الترتيب الإداري باعتباره لا يصدُر في شكل أمر أو منشور من إحدى السلط الحكومية أو الإدارية المبينة آنفا في الأماكن المخصصة للشعب الجامعية، كما أنه لا ينشر بالرائد الرسمي ولم يمنحه المشرع صفة ترتيبية بموجب أي نص قانوني أو ترتيب آخر وبالتالي لا يندرج ضمن التراتيب التي يعاقب القانون على مخالفتها...".
وفي تعليق على القرار المُتقدم بمجلة القانونية عدد 176/177 لشهر أفريل 2014 يُلاحظ الأستاذ محمود داوود يعقوب أن محكمة التعقيب عرفت التراتيب وحصرتها فيما يصدر عن السلطة التنفيذية من قواعد عامة مجردة منشورة بالرائد الرسمي، ونتساءل هل أن عبارة التراتيب يقصد بها فقط التراتيب الإدارية فعلا؟ وأجاب أن المقصود بها مختلف القواعد القانونية المنظمة للعمليات الست الذكورة بالفصل 96 من م.ج، ويمكن القول أن استعمال المُشرع عبارة " التراتيب " الذي يُمثل موضوع المخالفة كان في غير طريقه وكان حريا بأن يستعمل عبارة " التشريع ". وفي النهاية ساند الأستاذ يعقوب موقف محكمة التعقيب عملا بمبدإ " شرعية الجرائم والعقوبات " وما يقتضيه من ضرورة اعتماد التأويل الضيق للنص الجزائي . وفعلا فقد اعتمدت محكمة القانون التأويل الضيق وتأويل النص الجزائي لمصلحة التهم في صورة غموضه.
القسم الثاني : المفهوم القانوني للمنفعة والإضرار بالإدارة
استعمل المشرع عبارات مطلقة وهي " الفائدة " و " الإضرار"، فإذا ما أخذنا العبارتين على إطلاقهما أمكن القول بأن الفائدة تكون مادية أو معنوية. ويجوز اعتبار الضرر اللاحق بالإدارة من قبيل الضرر المادي أو المعنوي مهما بلغت درجته. عند قراءة الفصل 96 من م.ج وربطه بالفصل 98 من نفس المجلة الذي يقتضي أنه : " على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصلين 96 و 97 أن تحكم فضلا على العقوبات المبينة بهذين الفصلين برد ما وقع الإستيلاء أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجته أو أصهاره سواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى ". فالمنفعة المشار إليها بدلالة العبارات المستعملة بالفصل 98 من م.ج لا يمكن أن تكون إلا مادية بحتة، وفي خلاف ذلك يستحيل الحكم بالخطية وخاصة ردَ ما تم الإستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ماحصل عليه من منفعة أو ربح. وعلاوة على ذلك، فقد استعمل المشرع كلمات : "استيلاء"، "اختلاس"، "قيمة"، منفعة"، "ربح"، "الأموال"، "مكاسب"، كل هذه العبارات تدل على الجانب المادي دون المعنوي، ذلك أن الردَ لا يكون إلا عنصرا ماديا صرفا. وواصل الفصل المذكور في ذلك الاتجاه بقوله : "سواء بقيت على حالتها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى"، إضافة إلى أن الحكم بالخطية يستوجب قيمة مالية مادية مُحددة.
وحيث جاء بحيثيات قرار الدليل الجامعي المذكور ما يلي : "إن تأويل القاعدة القانونية على النحوالذي ذهبت إليه دائرة القرار المنتقد في اعتبار المنفعة الواردة بالفصل 96 من م.ج لا تقتصر على المنفعة المادية فحسب، بل تشمل المنفعة المعنوية، تأويلا خاطئا باعتبار أنها توسعت في تأويل النص الجزائي خارقة بذلك المبدإ القانوني القائل بالتأويل الضيق للقانون الجنائي، فكان التوسع لا مُبرر له ومخالفا لمراد المشرع زيادة على أن القاعدة القانونية في غُموضها، فتأويلها يكون لصالح المتهم دون العكس وفي ذلك خرق للقانون مستوجب للنقض". وإذا كانت المضرة لابد أن تكون مادية فلابد أن يكون الضرر ثابتا ومحددا ويُمكن حصره وتقديره وضبط قيمته دون سواه من الأضرار. وفي هذا السياق بينت محكمة التعقيب صلب نفس القرار أنه لابد من إبراز حصول المضرة للإدارة وفي انعدام المضرة فلا مجال لتطبيق الفصل 96 من م.ج، إذ كان من الضروري إبراز ماهية وطبيعة المضرة اللاحقة بالإدارة، فكان لابد من الإلتجاء إلى أهل الخبرة لتقدير قيمة المضرة الحاصلة للإدارة أو قيمة الفائدة الحاصلة للغير المنتفع خاصة وأن تلك القيمة ستكون جزءا من الحكم في صورة ثبوت الإدانة. ضرورة أن الفصل96 من م.ج أوجب على المحكمة تسليط عقوبة بالسجن وخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة وذلك على من تؤاخذهم. كما أن الفصل 98 من م.ج أوجب على المحكمة في صورة القضاء بالإدانة في الصور النصوص عليها بالفصلين 96 و 97 من م.ج أن تحكم فضلا على العقوبات ردَ ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من ربح أو منفعة. وفي صورة القبول جدلا بوجود المضرة المعنوية، فإن أهل الخبرة يصبحون عاجزين على تقديرها وتحديد قيمتها وتجعل المحكمة عير قادرة على تسليط العقوبة الملية والحكم برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو ما حصل عليه من منفعة أو ربح.
القسم الثالث : في الركن المعنوي
لم ترد أي إشارة تتعلق بالركن المعنوي في جرائم الاستيلاء على الأموال العمومية وذهبت بعض محاكم الموضوع إلى اعتبار أن القصد الإجرامي في خصوص هذه الجرائم هو مفترضا، وأن القول بخلاف ذلك سيؤدي حتما إلى عدم مؤاخذة من كان حافظا لتلك الأموال بمقتضى وظيفه. ولقد ذهبت محكمة التعقيب في السابق في هذا الاتجاه من خلال قرارها عدد 116 الصادر بتاريخ 02 فيفري 1987، إلا أن بعض الفقهاء وفقه قضاء محكمة التعقيب الحديث يروا خلاف ذلك تماما. فالركن المعنوي لا يمكن أن يكون مفترضا ذلك أن الافتراض يتنافى مع أهم المبادئ التي تحكم القانون الجزائي الذي يقوم على الجزم واليقين ولا على الشك والتخمين. إن البحث عن توفر الركن المعنوي يفترض قيام الركن المادي، ضرورة أن البحث عن حسن النية أو سوئها لا يستقيم إلا بعد حصول الفعل المجرم. أما إذا انتفى هذا الركن فإنه يصبح من العبث البحث عن القصد الإجرامي طالما أن الفعل المادي من أصله منعدم الوجود. إن جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية جريمة قصدية تقتضي توفر سوء النية، فالقصد الجنائي الخاص أمر حتى لا يحصل اشتباه بين النية السيئة للإضرار بالإدارة وبين مجرد الاجتهاد الوظيفي يمكن أن يرتب عن حسن نية الإضرار بالإدارة فهذا الأمر موكول لمحكمة الموضوع في تكييفها للإجتهاد الذي يدفع الموظف على ارتكاب الفعل الإجرامي ومدى اعتباره نافيا للقصد الإجرامي المتمثل في نية الإضرار بالإدارة.
في ختام هذه المحاضرة نلاحظ اننا تولينا بالدرس عينة من الإشكاليات القانونية التي تعرضت لها محكمة التعقيب في جرائم الاستيلاء على الأموال العمومية، فالإشكاليات عديدة ومتنوعة، ومحكمة القانون متعهدة بالعديد من القضايا التي تخص هذا الموضوع، وقادم الأيام سوف يكشف لنا عن إشكاليات أخرى خاصة وأن الاستناد إلى الفصل 96 من المجلة الجزائية لازال متواصلا كما أن صفة الوظيف لازالت تنطبق على رئيس الجمهورية والوزير في انتظار تطبيق قانون العدالة الإنتقالية.
شكرا على حسن الإصغاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.