الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي
الجمهورية التونسيـــة
وزارة العدل
المعهد الأعلى للقضاء
الطّفْـــل الطّبيــــعِي
رسالة تخرّج و نيل شهادة ختم الدروس
بالمعهد الأعلى للقضاء
من إعداد الملحق القضائي :
نور الدين الزياتي
الأستاذ المؤطر :
ساسي بن حليمة
السنة القضائية : 2000-2001
قائمة المختصرات
* م.ق.ت : مجلة القضاء و التشريع.
* م.أ.ش : مجلة الأحوال الشخصية.
* م.م.م.ت : مجلة المرافعات المدنية و التجارية.
* م.ا.ع : مجلة الالتزامات و العقود.
* م.ج : المجلة الجنائية.
المقدمــــة :
لو تركت العلاقات بين الجنسين من غير تنظيم لانتهي الأمر إلى تفشي الرذيلة و اختلاط الأنساب و اندثار مفهوم العائلة ، لذلك شرع الله الزواج ليكون إطارا أمثل لتزايد النوع البشري و استمرار الخليقة على وجه البسيطة .
وقد كان من نتيجة جعل الزواج إطارا شرعيا للعلاقات بين الزوجين نسبة الأولاد الذين تثمرهم تلك العلاقات إلى آبائهم من جهة، و عدم الاعتراف بالأبناء المولودين خارج إطار الزواج و اعتبارهم أبناء زنا أو أبناء طبيعيين .
فالابن الطبيعي، أو ابن الزنا هو ثمرة لعلاقة جنسية خضعت لقانون الطبيعة الذي تسير عليه سائر الكائنات الحية ، القائم على الاستجابة إلى الغرائز دون تثقيفها و تنظيمها ووضعها في إطار قانوني محدد. لذلك، فقد عومل الطفل الطبيعي بشيء من الجفوة و نظر إليه نظرة ازدراء و احتقار عبر العصور، فلم يعترف له التشريع الإسلامي بأي حقوق إزاء والده البيولوجي. فلا نسب و لا نفقة و لا إرث. بل إن أقصى ما يناله ابن الزنا أي الابن الطبيعي هو ثبوت نسبه من أمه بمجرد ولادته في جميع الأحوال و من غير حاجة إلى إثبات أو دليل *.
و هكذا، فقد حرم الطفل المتولد من علاقة سفاح من نعمة النسب بمقولة أن هاته النعمة لا تتأتى
*- انظر مذكرة الرئيس عبد الرؤوف بن الشيخ : الوضعية القانونية للبنوة الغير الشرعية في القانوت التونسي، ص2.
من طريق محرم*. وهي المقولة التي تنهض على قول الرسول الكريم إن الولد للفراش و للعاهر الحجر. و في الواقع، فإن التشريع الإسلامي لم ينفرد في حكمه بعدم إثبات نسب أبناء الزنا عن باقي التشاريع السماوية و الوضعية الأخرى ، بل إن هذه التشاريع قد أنكرت بدورها أي حق للأبناء المذكورين آنفا، لأنها كانت تقوم على أسس أخلاقية تنبذ الرذيلة و تقدس الزواج و تجعله الإطار الأمثل للإنجاب، لما في ذلك من حفاظ على مفهوم العائلة الشرعية و الخلية الاجتماعية بأسرها. من ذلك أن القانون الروماني كان يلحق ابن الزنا بوالدته و لا يقر له بأي حق في النسب.
إلا أنه، و انطلاقا من تنبه بعض التشريعات إلى عدم مسؤولية الطفل عما اقترفه والداه و إلى الحاجة إلى إنصاف ولد الزنا و إيلائه بعض العطف و العناية، فقد اعترفت له تلك التشريعات ببعض الحقوق تدريجيا حيث اعترف القانون الفرنسي القديم بأبناء الزنا، و أتاح للطفل المولود خارج إطار الزواج الحق في إثبات بنوته، و لكن دون أن يسمح له بالانتماء للعائلة الشرعية لوالده و ذلك حفاظا على وحدة تلك العائلة و استقرارها.
ثم، و في مرحلة لاحقة، حصل بعض التراجع. فوقع الاكتفاء بالسماح لوالدة الطفل الطبيعي بالتصريح بحملها، و ذلك في شكل قسم. و قد اصطلح على تسمية هذا الإجراء بـ L'adage ، فإذا أقسمت والدة الطفل بأنها قد حملت به من شخص معين جاز لها أن تطالب ذلك الشخص بمدها ببعض
المال الذي سمي بـles frais de gésine إلا أنها تبقى مطالبة بإرجاع ما تسلمته من مال للوالد المزعوم إذا خابت في إثبات النسب.
*- انظر عمر عبد الله : أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية، ط.2، ص 466.
و عقب ذلك أقرت مجلة نابليون، الصادرة في 1804، بحق الطفل الطبيعي في المطالبة بإلزام والده المزعوم بالإنفاق عليه عبر اللجوء إلى المحكمة. و قد كرس ذلك بالفصول 762 و 763 و 764 و 908 من المجلة المذكورة. و لو أن هذه الأخيرة قد تضمنت صلب فصولها 335 إلى 342 ما يفيد تحجير إضفاء الشرعية على أبناء الزنا و ذلك بدعوى الحرص على حماية العائلة الشرعية .
و قد سارت معظم التشاريع الغربية هذا المسار إلى أواسط القرن المنصرم تقريبا ، فقد اعترف القانون الفرنسي المؤرخ في 15/07/1955 بحق الطفل الطبيعي في النفقة مع الحرص على ألا تكون دعوى النفقة مطية للمطالبة بإثبات النسب، كذلك فقد ذهب القانون البلجيكي المؤرخ في 10/02/1958 إلى منع الاعتراف بنسب ابن الزنا و اكتفى في المقابل بإعطائه الحق في النفقة. و قد انتحى المشرع الإسباني نفس المنحى.
و أخيرا، فقد اعترفت معظم التشاريع الغربية بأبناء الزنا من ذلك نذكر التشريع الإيطالي لسنة 1942 الذي كان سباقا في السماح بإثبات نسب الطفل الطبيعي بطرق شتى كإقرار والديه بذلك إن كانا على قيد الحياة، أو إقرار من بقي منهما حيا ، إن توفي الآخر، علما و أن هذا الإقرار الأخير يستدعي القيام ببعض الإجراءات الإضافية التي لا يتسع المجال لذكرها، أو بالزواج اللاحق لوالدي الطفل حيث يعترف كل منهما بإنجاب الطفل من نسله بمناسبة إقامة مراسم الزواج*.
*- حول مجمل التطورات التاريخية التي مرت بها وضعية الطفل الطبيعي في بعض القوانين الغربية، انظر La condition juridique de l'enfant adultérin en droit italien.Goulet Jean marie. Thèse 1963. p.1 et s.
هذا، و قد تغيرت نظرة المشرع الفرنسي إلى الطفل الطبيعي منذ صدور قانون 3 جانفي 1972. حيث بدأ الاعتراف له تدريجيا بالحق في إثبات بنوته، إلى أن انتهى الأمر إلى تكريس مساواة شبه كلية بين جميع الأبناء، بصرف النظر عن ظروف ولادتهم، و ذلك بصدور القانون المؤرخ في 08 جانفي 1993.
و هكذا ، فإن الفوارق بين الطفل الطبيعي و الطفل الشرعي قد تلاشت تقريبا في معظم البلاد الغربية ، إلا أن ذلك لم يلغ التقسيم المتعارف لأنواع البنوة ن و الذي تصنف البنوة بمقتضاه أصنافا عدة . فقد تكون بنوة شرعية Filiation légitime ، و هي البنوة التي تستند إلى زواج شرعي . و قد تكون بنوة طبيعية Filiation naturelle ، يكون فيها الوالدان غير مرتبطين بزواج ، و قد تكون البنوة كذلك بنوة زنا Filiation adultérine إذا كان أحد والدي الطفل متزوجا بالغير . كذلك، قد يكون الطفل قرابيا Enfant incestueux إذا وجد بين والديه مانع من موانع الزواج . و أخيرا ، فقد تكون البنوة بنوة تبن Filiation adoptive إذا كانت بنوته ناتجة عن تبن*.
إلا أن ما يجب التنبيه إليه أن المقصود بالطفل الطبيعي، في دراستنا هذه، ليس الطفل المتولد عن علاقة بين رجل و امرأة لا يرتبطان بزواج مع الغير، بل هو الطفل الناتج عن علاقة غير شرعية مهما كان نوعها. و بالتالي، فإن ما نعنيه بالطفل الطبيعي هو ابن الزنا كما عرفته قواعد التشريع الإسلامي ، أي كل طفل ولد خارج إطار الزواج .
هذا ، و بالرجوع إلى القانون التونسي ، يتضح أنه قد اعترف مبدئيا بنوعين من أنواع البنوة، هما
*- انظر Jean Carbonnier: Droit civil, la famille, T.2, PUF, (Collection Thémis droit), 19éme édition, 1998.
البنوة بالتبني التي أقرها القانون عـ27ـدد لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني*. و كذلك البنوة الشرعية و المعبر عنها بالنسب.
هذا، و لعبارة النسب مفهومان ، مفهوم واسع و آخر ضيق.
فأما المفهوم الواسع للنسب، فيعني العلاقة الموجودة بين جميع أفراد العائلة الواحدة، و لو كانوا من الأباعد. فالنسب بهذا المفهوم يعني القرابة La parenté.
و أما المفهوم الضيق للنسب فيعني العلاقة الشرعية أو القانونية الرابطة بين الطفل و والده. و قد يبدو ذلك غريبا ضرورة أن الطفل يولد من ذكر و أنثى، فلم الإشارة إلى الأب و إغفال الحديث عن الأم تماما ؟
في الواقع، فإن نظرة المشرع هذه موروثة عن التقاليد العربية في الجاهلية حين كانت القبيلة هي الأساس، و هي بمثابة الأسرة الموسعة فكان ارتباط إفراد الأسرة الأعضاء كارتباط أفراد القبيلة الأم مؤسسا على النسب المبني على قرابة العصوبة أي قرابة الرجال الذين كانت النصرة بهم و الذين كانت لهم حقوق الإرث و غيرها. و قد انتقلت هذه النظرة إلى النسب إلى التشريع الإسلامي و منه إلى التشريع التونسي**.
*- انظر الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عـ19ـدد لسنة 1957.
**- حول مفهوم النسب انظر أطروحة الأستاذ ساسي بن حليمة: La filiation paternelle légitime en droit Tunisien, p. 9 à 16.
فالنسب، في التشريع الإسلامي و كذلك التشريع التونسي، يعني ارتباط الولد بأبيه ارتباطا شرعيا و بيولوجيا. و هو ما يفترض أن الطفل ناتج من صلب والده و في إطار علاقة شرعية أي زواج لا علاقة سفاح و خناء .
و قد بين الفصل 68 من م.أش الوسائل المعتمدة في إثبات النسب علما و أن ثبوته يخول للطفل التمتع بكافة حقوقه إزاء والده و المتمثلة أساسا في حمل اللقب العائلي و الحق في النفقة و الإرث .
و هكذا، فان المشرع التونسي قد أهمل الحديث عن الطفل الطبيعي و لم يستعمل مطلقا كلمة "الابن الطبيعي" في أي نص من النصوص القانونية، و لم يكلف نفسه عناء السعي إلى تنظيم وضعية قانونية له، ولو بجعله في منزلة تقل درجة عن منزلة الابن الشرعي. بل إن غاية ما فعله مشرعنا هو التنصيص، صلب الفصل 152 من م أش، على حكم مفاده أن ابن الزنا يرث من أمه و قرابتها و ترث منه أمه و قرابتها. وهو ما يفيد بمفهوم العكس انه لا يرث من والده و قرابته و لا يرثه والده و قرابته. فهو مقطوع بالأخارة عن نسب والده و لا علاقة قانونية تربط بينهما.
فالواضح مما أنف عرضه، أن المشرع التونسي قد اعتمد حلين مختلفين تمام الاختلاف بالنسبة إلى الأبناء، فإما أن يكون نسبهم ثابتا فيمتعون عندئذ بجميع حقوقهم، و إما أن يكون ذلك النسب غير ثابت فيعتبرون أبناء زنا و لا حق لهم إلا في إرث والداتهم .
و لكن، ما تجدر الإشارة إليه هو أن المشرع التونسي قد وضع وسائل ثلاث لإثبات النسب، و هي الفراش و الإقرار و البينة ، علما و أن هذه الوسائل هي وسائل مستقلة عن بعضها البعض .
و هذا الأمر من شأنه أن يسمح بإثبات نسب الطفل، و لو أنه كان مولودا خارج إطار الزواج، كما لو أقر له والده بالنسب أو أفادت بينة الشهود بذلك. إلا أنه ، و رغم المرونة و التوسع اللذان ميزا صياغة الفصل 68 من م.أ.ش فإن فقه القضاء التونسي قد طبقه تطبيقات متباينة. فذهب تارة إلى التوسع في مفهوم الزواج أو إلى الأخذ بالإقرار و الشهادة كوسيلتين مستقلتين بذاتهما من وسائل إثبات النسب، و ذهب طورا آخر إلى التضييق في قراءة الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية بشكل جعله يضيق في مفهوم الزواج أو يشترط توفر العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالشهادة أو بالإقرار .
و هكذا ، فقد بدت وضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي وضعية مشوبة بالغموض و عدم الاستقرار، و ظل الطفل المذكور خاضعا لاجتهادات فقه القضاء في قراءته للفصل 68 من م.أ.ش . و أمام ذلك، و في ظل تعالي الأصوات المنادية بحماية حقوق الطفل، و في مقدمتها حقه في الهوية، و بعد صدور مجلة حماية الطفل سنة 1995، اتجهت إرادة المشرع سنة 1998 إلى التفكير في إرساء نظام قانوني خاص بوضعية الأبناء المولودين خارج إطار الزواج. فكان أن وضعت اللبنة الأولى لذلك النظام، و ذلك بسن القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، و الذي أقر بحق الطفل الطبيعي في إثبات الأبوة ، و رتب عن توفقه في تحقيق ذلك بعض الآثار الهامة. و في مقدمتها الحق في حمل اللقب العائلي للأب و الحق في الرعاية من نفقة و حضانة، علما و أن قانون 1998 لم يحسم في مسألة الإرث، فأغفلها و تجنب الحديث لا بالتصريح و لا بالتلميح.
هذا، و يمكن تعريف الحق في إثبات الأبوة بكونه ذلك الحق المخول للطفل في المطالبة بربط صلته الدموية بوالده البيولوجي و الكشف عنها و إقرارها قضائيا. فهو يعني، بالتالي، إثبات العلاقة البيولوجية بين الطفل و والده. و هو يختلف، بذلك، عن النسب الذي يفيد، كما تقدم عرضه، وجود علاقة بيولوجية و أخرى شرعية بين الطفل و والده في الآن نفسه.
و على العموم ، فإنه يبدو أن الطفل الطبيعي في القانون التونسي قد بات خاضعا، في الآن نفسه، لنظامين قانونيين متباينين أحدهما متكامل ، و نعني به الأحكام المنظمة للنسب، و الآخر في طريقه إلى الاكتمال إن توفرت الرغبة التشريعية في ذلك طبعا ، و نقصد به الأحكام المنظمة لإثبات الأبوة المكرسة بالقانون عـ75ـدد لسنة 1998.
لذلك ، و في انتظار التوصل إلى إرساء نظام قانوني متكامل و مستقل بذاته يكون خاصا بالأطفال المولودين خارج إطار الزواج و مستقلا عن الأحكام المنظمة للنسب، فإن هذه الشريحة من الأطفال ستظل خاضعة لنوع من الازدواجية القانونية التي تسمح للطفل الطبيعي ، أو لممثله القانوني ، بالسعي في إثبات نسبه ، إن تهيأ له ذلك و توفرت لديه وسيلة من وسائل إثبات النسب، أو قصر سعيه على إثبات بنوته إن اتجهت رغبته ، أو رغبة من يمثله ، إلى ذلك . علما و أن إثبات الأبوة قد يكون أقرب منالا إلى الطفل نظرا لكون الغاية منه هي إثبات بنوة غير شرعية لا ينتظر أن يتشدد فقه القضاء في الحكم بها بمجرد قيام الدليل على وجود العلاقة البيولوجية بين الطفل و والده و هو أمر سهل الإدراك ،مبدئيا، لا سيما في صورة استجابة المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة إلى إجراء تحليل جيني ، كما سنراه لاحقا بمزيد من التفصيل.
و هكذا ، فإن السؤال الهام الذي علينا أن نحاول الإجابة عنه، من خلال هذه الدراسة، هو ذلك السؤال المتعلق بوضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي. و هو سؤال يكتسي أهمية نظرية و عملية بالغة نظرا لتكاثر هذه الشريحة من الأطفال و تزايد عددها باطراد.
فما هي وضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي ؟
ذلك ما نروم الخوض فيه، علما و ان مدار بحثنا سينحصر في محورين اثنين، يخصص الأول منهما إلى تناول مسألة الطفل الطبيعي و النسب ( الجزء الأول)، في حين يخصص الثاني للنظر في مسألة الطفل الطبيعي و الأبوة ( الجزء الثاني).
الجزء الأول : الطّفل الطبيعي و النّسب
هل يمكن إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ذلك هو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا الصدد . وهذه الإجابة لن تكون بالأمر الهيّن ولا اليسير ذلك أن المواقف قد تباينت بين رافض لإثبات نسب الطفل المولود خارج إطار الزواج و قابل بإثبات ذلك النسب.
فأما الرافضون لإثبات نسب الطفل الطبيعي فإنهم يؤسسون رفضهم على مجموعة من الأسانيد و الأسس التي تحول دون ذلك الإثبات في نظرهم ، و هم يقسمون هذه الأسانيد و الأسس إلى أسس و أسانيد تشريعية و أخرى قضائية .
و أما أنصار القول بإمكان إثبات نسب الطفل الطبيعي ، فإنّهم يستندون بدورهم إلى عدد من الحجج و الدعائم التشريعية و القضائية التي يقدّمونها للانتصار إلى موقفهم المذكور.
تلك إجمالا إجابتنا على السؤال الذي تقدّم طرحه و لكن ليس بالإجمال يتضح الحال ، بل إن اتضاحه يقتضي منّا الخوض في دقائق هذه المواقف المتباينة من مسألة إثبات نسب الطفل الطبيعي، و هو ما نروم القيام به ضمن قسمين اثنين من هذا الجزء، يخصص الأول منهما للحديث عن الموقف القائل بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي (القسم 1) ، بينما يخّصص الثاني لتناول الرأي القائل بإثبات نسب الطفل الطبيعي (القسم 2 ).
القسـم(1) : عدم إثبات نسب الطفل الطبيعي
التفّ حول الرأي القائل بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي عدد هام من الفقهاء و شرّاح القانون ، كما انتصرت له عديد المحاكم من خلال ما أصدرته من أحكام و قرارات قضائية .
فإن قال قائل إن سبب الرفض هو تحامل على الطفل الطبيعي لا سند له و لا مبرّر كانت إجابة الرافضين لإثبات نسب الطفل المتحدث عنه أن رفضهم يستند إلى أسانيد تشريعية (المبحث 1) و أخرى قضائية (المبحث 2) من شأنها تبرير موقفهم .
المبحث (1) : الأساس التشريعي لعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي
يذهب القائلون بعدم إمكان إثبات نسب الطّفل الطبيعي إلى أن التشريع الإسلامي وكذلك تشريعنا الوضعي ، لا يعترفان بالنسب إلا للأطفال المولودين في إطار علاقة شرعية.
ومن ثمة فإنه لا مجال لإثبات نسب الطّفل الطبيعي وذلك بالنظر إلى رفض التشريع الإسلامي (فقرة 1 ) وكذلك التشريع التونسي لمثل هذا الإثبات (فقرة 2)
فقرة (1) : عدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطّفل الطّبيعي :
لا جدال في أن التسليم بأمر أو رفضه لا يمكن أن ينهض على فراغ، لذلك فإنه في سياق حديثنا عن رفض التشريع الإسلامي لإثبات نسب الطفل الطبيعي علينا أن نتساءل عن مبنى القول بهذا الرفض (أ) وأن ننظر في مدى وجاهة ذلك القول (ب).
-أ- مبنى القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي :
ينطلق القائلون برفض التشريع الإسلامي لإثبات نسب الطفل الطبيعي للتدليل على صدق قولهم من الحديث النبوي الشريف المتضمّن أنّ : "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وهذا الحديث المنسوب للرّسول الكريم يحتاج إلى بيان مدلوله وفحواه، لكن قبل ذلك يتجه البحث في مدلول كلمة الفراش الواردة ضمنه.
الفراش لغة : هو كلّ ما يبسط ويفرش ومنه المفرش. وأمّا شرعا : فقد عرّفه أبو الحسن علي الجرجاني بقوله : " الفراش هو كون المرأة متعينة للولادة لشخص واحد هو زوجها"* فالفراش يفيد الزّواج الذي يتم بموجبه لحوق النّسب بصاحبه دون حاجة إلى دليل آخر.
ويشمل الفراش الزواج الذي استوفى جميع أركانه وشروطه الشرعية ، وكذلك الزواج العرفي أي الذي تمّ فيه الرّضا ولم تتبع فيه الطريقة النظامية أي لم يقع إفراغه في شكل حجة رسمية .**
هذا ، وقد عرّفت محكمة التعقيب الفراش بقولها : "إن المقصود من لفظ الفراش الوارد بالفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية هو الزواج الشرعي كيفما كان وجه إبرامه و لا يندرج في مدلوله و مرماه رابطة الاتصال الناتج عن علاقة الزنا***.
*- التعريفات للجرجاني . الدار التونسية للنشر . ص 89.
**- انظر مقال الأستاذ الهادي كرو : "الولد للفراش" م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 1972. ص11.
***- انظر القرار التعقيبي المدني عـ4339ـدد المؤرخ في 06 جانفي 1981 م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 81. ص61.
فإذا كان تعريف الفراش ما تقدم بسطه ، فما هو إطار قول الرسول الكريم أن الولد للفراش و للعاهر الحجر ؟ و ما هو مدلول هذا القول و معناه ؟
فأما عن إطار صدور الحديث النّبوي المذكور آنفا ، فقد روي عن عائشة أنه كان عتبة ابن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد ابن أبي وقاص إن ابن وليدة زمعة منّي فأقبضه إليك .
فلما كان عام الفتح أخذه سعد ابن أبي وقاص و قال : ابن أخي قد كان عهد إلي فيه . فقام إليه عبد ابن زمعة فقال : أخي و ابن وليدة أبي ولد على فراشه .
فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال سعد : يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد ابن زمعة فقال :أخي و ابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد ابن زمعة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الولد للفراش و للعاهر الحجر ، ثم قال لسودة بنت زمعة : احتجبي عنه : لما رأى من شبهه بعتبة ابن أبي وقاص . قالت عائشة فما رآها حتى لقي الله عزّ و جلّ* .
و هكذا فقد قضى الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بالولد لزمعة رغم قناعته بأنه ابنا لعتبة بناء على ما لاحظه بينهما من شبه . و لا أدلّ على ذلك من أنه صلى الله عليه و سلم قد أمر زوجته سودة بنت زمعة بالاحتجاب عنه و هو أخوها شرعا و لكن العلاقة التي تربطها به شرعية لأنه ولد على فراش أبيها .
*- انظر ابن رشد : "بداية المجتهد و نهاية المقتصد" ج.2 ص357.
فالمستفاد مما سبق عرضه أنّ للولد الذي حصل بشأنه النزاع نسبين : نسب شرعي يلحقه بزمعة لأنه ولد على فراشه ، و نسب طبيعي يلحقه بعتبة لأنه ثمرة زناه مع وليدة زمعة ، و لكن هذا النسب ليس له وجود لأن الشرع يرى فيه خيبة*. فالطفل يلحق بالزواج أي بزوج أمه و أما العاهر أي الزاني فجزاؤه الحجر أي الرّجم .
هذا ، و بخصوص مدلول قول الرسول صلى الله عليه و سلم : "الولد للفراش و للعاهر الحجر" . فإنّ هذا القول يعني ترجيح العلاقة الشرعية أي الزواج على العلاقة غير الشرعية في صورة التزاحم بينهما بشأن إثبات النسب ، كما يعني فضلا عن ذلك النهي عن العلاقة الخنائية من خلال زجر مرتكبيها و ترتيب عقاب لهم .
إن الحديث الذي حضنا في تبيان فحواه ، اتخذ من قبل أنصار القول بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي آية و دليلا على صدق قولهم و رجحان مذهبهم ، فهم يرون أن البنوة معنى من معاني الحياة السامية و هي أساس للارتباطات البشرية على اختلاف درجاتها ، و لسلامة هذه الارتباطات شرع الله الزواج لغايات سامية في مقدّمتها بقاء النوع البشري عن طريق شرعي و هذا لا يكون إلاّ إذا جاء أولاد الرجل و المرأة بطريقة الزواج . و لكي ينشأ هؤلاء الأولاد نشأة كريمة شرع الله لهم حقوقا مختلفة أولها ثبوت النسب .
*- انظر مقال الأستاذ الهادي كرو "الولد للفراش" م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 1972. ص11.
فإذا انتفى النسب صار الولد من زنا ، و الزنا شرعا لا يثبت نسبا لأنه بمثابة الفعل الخالي من أي شبهة مسقطة للحدّ فهو نقمة و جريمة و الولد الناتج عن نكاح الزنا لا يلحق بالزاني خوفا من أن يعمّ الفسق و ينتشر الفساد و تختلط الأنساب لقوله تعالى بعد بيان المحرّمات من النساء : و أحلّ لكم ما وراء ذلكم إن تبتغوا بأموالكم محصّنين غير مسافحين .فالمجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على مفهوم العائلة الشرعية التي تتأسس على الزواج الذي يوفر إطارا لممارسة الحقوق و الواجبات بين أفراد العائلة الواحدة* .
لكن لسائل أن يتساءل لم نؤاخذ الطفل بجريرة أبويه فنعتبره طفلا غير شرعي ؟ ألا يتنافى ذلك مع قوله تعالى في كتابه الحكيم : "لا تزر وازرة وزر أخرى " ؟.
إن الرد عن ذلك يقتضي منا البحث في مدى وجاهة القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي .
_ب_ مدى وجاهة القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي :
نتساءل في هذا الإطار : هل أن التشريع الإسلامي يرفض حقا إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ و بعبارة أدّق : هل أن الحديث النبوي القائل إن الولد للفراش و للعاهر الحجر يقوم حائلا دون إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ .
*- انظر مؤلف الرئيس عبد الرؤوف بن الشيخ : "الوضعية القانونية للبنوة الغير شرعية في القانون التونسي"، مذكرة 1979، ص5.
جوابا عن ذلك نقول إنه يتعين حصر نطاق الحكم الشرعي الذي تقدم ذكره و الصادر عن الرسول الكريم في صورة ما إذا عورض الإقرار بالنسب بكون الولد المعترف به قد ولد على فراش شخص آخر لأننا نكون بذلك إزاء تزاحم بين إقرار بالأبوة و فراش شرعي، فعلينا حينها أن نغّلب الفراش لأنه لا مجال للأخذ بالإقرار إذا كان للطفل نسب معلوم .
و فضلا عن ذلك فإن حكم الرسول الكريم بإسناد الطفل لمن كان يتمسّك بالفراش له ما يبرره لأن المنطق و الضرورة يقتضيان أن يغلب الزواج بوصفه علاقة شرعية على العلاقة الخنائية ، فلو قضى الرسول بإسناد الطفل لمن كان يتمسك بالعلاقة البيولوجية ، لأمكن للبعض القول إن التشريع الإسلامي يشرّع لعلاقة السّفاح ويقرّها ، ولاحتدت المنازعات وتعدّدت حول النّسب وهبّ العديد للمطالبة بحقوقهم المزعومة في إثبات أنساب أطفال ولدوا من صلبهم ولو أنّ أمّهاتهم مرتبطات بزواج مع الغير.
ومماّ تجدر الإشارة إليه أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد قضى بالحجر أي الرّجم للعاهر. وعبارة العاهر تشمل والد الطفل ووالدته ولكنها لا تشمله بأيّة حال. لأنه بريء من كلّ ذنب ولا يمكن أن ننسب له أي خطإ أو جرم لكونه ولد نتيجة لعلاقة سفاح*.
وعموما، فإن القول بأن التشريع الإسلامي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي قول يتّسم بالإجحاف إزاء الطفل ، كما يتسم أيضا بإطلاقه حال أن إمكانية تقييده تبدو جائزة. فلو فرضنا
*- انظر نادية آيت زاي : مقال بعنوان : "L'enfant illégitime dans la société musulmane" R.T.D. 1990.p11.
جدلا أن شخصين تقدّما إلى الرّسول الكريم ليفصل في نزاعهما حول أبوّة طفل ، وكانا في حلّ من أيّ علاقة زوجية وكانت والدة الطفل غير متزوجة بدورها فما هو الحلّ الذي كان سيرتئيه إذ ذاك ؟ لا شكّ أنه كان سيقضي برجم أطراف العلاقة الآثمة ثلاثتهم بناء على ارتكابهم للزنا . لكن ماذا عن مآل الطفل ؟ أغلب الظن أنه صلى اللّه عليه وسلّم كان سيسند الطّفل لوالده البيولوجي إن تبين له وجه الفصل بذلك. فنضمن بالتالي، إيقاع الجزاء بمن وقع في المحظور بمن فيهم الوالد البيولوجي للطفل، و الذي سيتحّمل مسؤولية إضافية بإسناد نسب الطفل إليه ، مع ما في ذلك من التزام بالتنشئة والإنفاق. علما وأنّه لا مانع نظريا من توظيف هذا الالتزام على تركة الوالد إن قضى هذا الأخير نحبه بتنفيذ الحكم الصادر ضده بالرجم.
إنّ قول الرسول الكريم بأنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر لا يمكن أن يحول دوما دون إثبات نسب الطفل الطبيعي، ذلك أن التشريع الإسلامي لم يهمل الأبناء المولودين من سفاح، بل كان متشوفا لإثبات أنسابهم حفظا لهم من الانبتات ونأيا بهم عن قسوة المجتمع عليهم وازدرائه منهم.
هذا، ومن آيات تشوّف التشريع الإسلامي لإثبات الأنساب ، أن هذا التشريع قد نظر إلى مسألة النسب نظرة خاصة فجعله بمثابة الرابطة بين الولد وأبيه ، وهذه الرابطة قد تكون ثمرة الفراش أو نتاج إرادة مطلقة للأب في قبول نسب الطفل من عدمه *.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي قد اعتمد الدعوة أو الاستلحاق أو الإقرار بالبنوّة كوسيلة لإثبات النسب. ورتب عليه آثارا تجعل المقر لفائدته بالبنوّة في منزلة الابن الشرعي.
*- انظر كتاب "دراسات في النسب" لمؤلفه السيد علي حسين الفطناسي. ص43.
كذلك، فإن في موقف الرّسول الكريم مع المرأة الغامدية ما يبرّر الدعوة إلى الرّفق بالطّفل الطبيعي وإبداء فضل من المرونة إزاءه. فقد نقل الرّواة أن هذه المرأة وقفت بين يدي الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وسألته عمّا تفعله بولدها الذي أنجبته من سفاح، فأمرها الرّسول بأن تذهب فترضعه وترعاه. ثم عادت إليه ثانية، فأمرها بأن تنصرف إلى تنشئة طفلها وتربيته التربية الصّالحة. وواضح من ذلك أنّ الرّسول قد اهتم لأمر الطّفل ولم يبد أي تحامل تجاهه رغم أنه كان ثمرة سفاح.
وإجمالا، فإنه، و في ظل غياب حكم صريح من الكتاب أو السنّة يبتّ في مسألة إثبات نسب الطفل الطبيعي من عدمه، فإن الخلاف بشأنها سيظلّ قائما بين قائل بجواز إقحام هذا الطّفل في زمرة الأبناء الشرعيين ورافض لذلك. ولو أنّ الرأي المهيمن قد سار في اتجاه القول بأن التشريع الإسلامي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي، شأنه في ذلك شأن التشريع الوضعي التونسي.
الفقرة (2): عدم إثبات التشريع التونسي لنسب الطّفل الطبيعي :
يذهب القائلون بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي إلى التمسّك بأن التشريع التونسي لا يقبل بمثل هذا الإثبات ، وهو ما يؤكده في نظرهم تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوّة الطبيعية واكتفاؤها بالإشارة إلى الأمومة الطبيعية (أ)، فضلا عن وجود نصوص قانونية تنظم وضعية الأطفال المهملين ومجهولي النسب في تشريعنا الوطني (ب).
-أ- تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوّة الطبيعية :
لو أمعنا النظر في أحكام مجلة الأحوال الشخصية لخلصنا إلى استنتاج مفاده أنّ هذه المجلة لا تستعمل البتة مصطلح "البنوة الطبيعية". وهي تتجاهل هذا المفهوم مطلقا إذ أنها تستعمل عبارة "ولد الزّنا " دلالة على الابن المولود خارج إطار الزّواج، وذلك صلب الفصل 152 من مجلة الأحوال الشخصية الوارد ضمن الباب الثامن من الكتاب التاسع من المجلة والذي يتضمن أنّه : "يرث ولد الزّنا من الأم وقرابتها وترثه الأم وقرابتها"*.
وغنيّ عن البيان أن المشرع التونسي لم يقصد من وراء هذا الفصل اليتيم إيجاد نظام قانوني للابن الطبيعي، بل إنّ غايته من وراء وضعه كانت حجب الطفل من إرث والده حجبا كاملا. ذلك أن القراءة العكسية للفصل 152، المذكور آنفا، تفضي إلى القول إنه لا يرث ولد الزّنا من أبيه وقرابته و لا يرثه أبوه وقرابته.
فالتشريع التونسي للأحوال الشخصية قد اعترف بالأمومة الطبيعية، فيظّم علاقة الطفل بوالدته ورتب عن هذه العلاقة ما يترتّب عادة عن أمومة الزواج ، وفي المقابل فإنه قد تغاضى عن الإشارة إلى الأبوّة الطبيعية. وأغلب الظنّ أنّ تغاضيه هذا قد كان مقصودا.
*- انظر مقال الأستاذ ساسي بن حليمة بعنوان : "La filiation naturelle en droit tunisien" in mélenges Mohamed CHARFI C.P.U. 2000.
وبخصوص الأمومة الطبيعية فإن المشرع لم يشترط وسيلة معينة لإثباتها وبالتالي اتجه القول إلى أنها تثبت بكل الوسائل بوصفها واقعة قانونية.
فمجلة الأحوال الشخصية لا تعترف إذن بالبنوة الطبيعية. وهي لا تكرّس إلاّ نوعا واحدا من البنوّة، وهو البنوّة الشرعية أي النسب الذي يتميز بمدلول خاصّ في التشريع التونسي، إذ أنه يعني علاقة الطّفل بوالده لا أكثر . وكأنّ الولد لا يولد لرجل و امرأة. فدور الأم مغيّب بالتالي. وهو ما يسمح بالتساؤل عن أسباب هذا التّغييب؟ جوابا عن ذلك نقول إنّ هاته الأسباب تتلخص في تأثّر مجلة الأحوال الشخصية الواضح بالتشريع الإسلامي وبالحضارة العربية التي تعتبر أنّ الصّلة بالأب هي الشرط الرّئيسي في حمل لقب العائلة أو القبيلة ، وجني ثمرة الانتساب لها.
وهكذا، فإن مجلة الأحوال الشخصية قد تجاهلت الطفل الطبيعي تجاهلا تاماّ تقريبا. ولا شك أن هذا التجاهل لا يخدم إلاّ مصلحة والد الطفل المذكور وإخوته الشرعيين منه، إذ أنّه يعفي الوالد من أي التزام إزاء الطفل، كما أنّه يريح إخوته الشرعيين من أن يشركوا طرفا إضافيا في مال والدهم في قائم حياته وبعد مماته.
و لكن تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية، و إن كان يتوافق مع رغبة والد الطفل الطبيعي و أبنائه الشرعيين، فإنه يلحق الضرر كل الضرر بالطفل و والدته على السواء .
فهو يلحق الضرر بالطفل الطبيعي في المقام الأول لأنه يحرمه من التمتع بنعمة النسب مع ما في ذلك من إهدار لحقوقه المادية إزاء والده من نفقة و إرث، فضلا عن شعوره بالانبتات و التيه الذي قد يولد لديه النقمة و الحقد على المجتمع .
كذلك فإن تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية يضر بوالدة الطفل لأن إحساسها بالأمومة يدفعها غالبا إلى عدم التخلي عن طفلها مع ما في ذلك من تحمل لعناء تنشئته و الإنفاق عليه، و صبر على تحامل العائلة و المجتمع بأسره عليها.
قلنا، يدفعها غالبا، و لم نقل دوما، لأن بعض الأمهات العازبات قد يلجأن أحيانا إلى أسوإ الحلول بقتل مواليدهن أو التخلص منهم بشتى الطرق و الأساليب .
هذا، و قد تدفع الأم و وليدها حياتهما ثمنا لرد اعتبار العائلة المهان و استرجاع شرفها المثلوم. و هي ممارسات توارثتها الأجيال منذ عصور الجاهلية إلى يومنا هذا، و لو أن حدتها قد انحسرت و تراجعت في معظم البلاد نتيجة لتغير أنماط الحياة و تبدل القيم و المفاهيم الأخلاقية .
و إجمالا، يمكن القول إن مجلة الأحوال الشخصية قد تجاهلت البنوة الطبيعية تجاهلا كليا تقريبا، حيث اكتفت بتنظيم علاقة الطفل الطبيعي بوالدته ضمن فصل يتيم اندس بين الأحكام الخاصة بالميراث وكأنه يتوارى من سوءة هذه الوالدة و زللها .
و لا مراء في أن هذا التجاهل قد مثل السند و الحجة القويين للقائلين بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي. و ربما زادت حجتهم قوة و أيدا من خلال نزوع مشرعنا لسن بعض القوانين المتفرقة بهدف تنظيم وضعية الأبناء المهملين و مجهولي النسب، دون أن يرقى ذلك إلى الحديث عن تنظيم قانوني مكتمل للبنوة الطبيعية.
ب : التنظيم القانوني لوضعية الأبناء المهملين و مجهولي النسب :
أمام تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية، حاول المشرع التونسي الإحاطة بشريحة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. و ذلك بسنه لجملة من النصوص القانونية التي ظهرت في تواريخ متلاحقة، و ربما كان ذلك سعيا منه لإحداث نظام قانوني خاص بالأطفال المهملين و مجهولي النسب يكون لهم بمثابة البديل عن منظومة النسب كيفما أوردتها مجلة الأحوال الشخصية .
و في هذا الإطار، فقد صدر القانون عدد27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس1958 و المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني* فأحدث مؤسسة الوليّ العمومي، و جعله في منزلة الولي الشرعي بأن حمّله بما يتحمل به هذا الأخير من واجبات و متعه بما يتمتع به من حقوق إزاء الطفل المهمل و اللقيط و الذي يكون في الغالب طفلا مجهول النسب و فاقدا لولي شرعي.
و قد اعتبر القانون المتحدث عنه آنفا، ضمن فصله الأول، أن متصرفي المستشفيات و المآوى و معاهد الرضع و مديري الإصلاحيات و مآوى الأطفال أولياء عموميين للأطفال اللّقطاء و المهملين عندما يتعهّدون بحفظهم . كما أسند المسؤولية للولّاة في جميع الصور الأخرى ، و نصّ الفصل الثاني من نفس القانون على أن الدولة أو البلدية أو المؤسسة العمومية حسب الحال مسؤولة مدنيا عن أعمال الأطفال المشار إليهم بالفصل الأول من القانون المشار إليه آنفا .
*- انظر القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1958، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 19 الصادر بتاريخ 07 مارس 1958.
هذا، و لا يفوتنا التذكير بما تضّمنه الفصل 27 من القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في 01 أوت 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية من أنه : "على كل شخص عثر على مولود أن يسلمه لضابط الحالة المدنية مع الثياب و الأدباش التي وجدت معه و أن يصّرح بالظروف و الزمان و المكان التي عثر فيها على الولد. و يحرر تقرير مفصل في ذلك ينصّ فيه، زيادة عمّا ذكر، سنّ الولد حسب الظّاهر و جنسه و الأسماء التي سيسمى بها. و يضمّن هذا التقرير بالدفاتر، و يعلم ضابط الحالة المدنية حالا وكيل الجمهورية بذلك .*
و فضلا عن الأحكام السابق الإشارة إليها، فقد صدر القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1956 فنصّ في فصله الأول على أنه ينبغي على كل مواطن تونسي أن يكون له زيادة على اسمه أو أسمائه لقب عائلي . إلا أن عيب هذا القانون كان يكمن في طابعه الظرفي إذ حددت مدة سريانه بخمسة أشهر لا أكثر.
كذلك، سنّ المشرع القانون عـ91ـدد لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985 و المتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب . و قد تضمن في فصله الأول أنه على الولي العمومي اختيار إسم و لقب عائلي لكل من يفتقر من هؤلاء الأطفال لذلك. و قد استمرّ العمل بهذا القانون مدة سنتين بدءا من تاريخ نشره** .
و أخيرا، فقد صدر القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 و المتعلق
*- انظر الفصل 27 من القانون عدد3 لسنة 57 المؤرخ في غرة أوت 57 و المتعلق بالحالة المدنية.
**- انظر مقال الرئيس جمال شهلول بعنوان : "الحق في الهوية" م.ق.ت. جانفي 1999.
بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين و مجهولي النسب فكشف القناع و لو ببعض الاحتشام عن الطفل الطبيعي و حاول إيجاد وضعية قانونية خاصة به.
و هكذا، فقد حاول المشرع التونسي، من خلال مجمل هذه القوانين، إيجاد حلول ظرفية و متقلّبة للأطفال الطبيعيين، و لو أنه التزم الحرص على عدم استعمال مصطلح البنوة الطبيعية و تسمية الأشياء بأسمائها. و قد فسّر القائلون برفض إثبات نسب الطفل الطبيعي سنّ هذه النصوص بأنها محاولة تشريعية دؤوبة لإيجاد وضعية قانونية خاصّة بالطفل الطبيعي تختلف عن مفهوم النسب. و هو ما يؤكد صدق قولهم بأن مشرعنا لا يقبل بإثبات نسب هذا الطفل. و لو كان يقبل بذلك لما احتاج إلى وضع القوانين السابق استعراضها و خاصة القانون عــ75ــدد لســنة 1998، لأن نتيجة ذلك ستكون في النهاية إيجاد وضعية قانونية للبنوة الطبيعية تختلف بالضرورة عن أحكام النسب، و تتعايش معها.
و خلاصة القول، فإن الرافضين لإثبات نسب الطفل الطبيعي قد وجدوا في التشريع الإسلامي كيفما فسّروه، و في توجهات المشرع التونسي، كيفما نظروا إليها، ما يقوي قناعاتهم بأنه لا سبيل لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج . و قد وجد هذا الاتجاه التزكية و التأييد من لدن جانب هامّ و مهيمن من فقه القضاء الذي رفض إثبات نسب الطفل الطبيعي.
المبحث ) 2 ) : الأساس القضائي لعدم إثبات نسب الطّفل الطبيعي .
أبدى جانب من فقه القضاء التونسي بعض الشدّة و التضييق في تطبيقه للفصل 68 من م.أ.ش المتعلق بوسائل إثبات النّسب. فاشترط العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالشهادة -الفقرة (1) - كما اشترط العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالإقرار -الفقرة (2) - . و أخيرا فقد أعطى مفهوما ضيّقا للزواج الباطل لإبرامه خلافا للصيغ القانونية - فقرة )3) . و هذا ما أوحى للشّراح و الفقهاء بأن فقه القضاء التونسي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي.
الفقرة )1) : فقه القضاء التونسي و اشتراط العلاقة الشرعية لإثبات النسب
بشهـادة الشهـود
تولّى المشرع التونسي صلب الفصل 68 من م.أ.ش التنصيص على الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب، إلا أنه سكت بخصوص فحواها، أي بخصوص ما يجب أن يشهد به الشاهدان من أهل الثقة فأكثر.
و مبدئيا، فإن الشاهد يشهد بما رأى أو سمع. و لكن الشاهد في مادّة النسب لا يمكنه أن يعلم بالظروف و الملابسات التي تكون فيها الطفل و حصل فيها العلوق و الحمل.
و خلافا لنظيره التونسي ، فقد حدّد المشرع المغربي فحوى الشهادة صلب الفصل 89 من المدونة المغربية الذي تضمن أنه على الشاهدين أن يشهدا بأن الطفل قد ولد على فراش الشخص المراد إلحاقه بنسبه من زوجته فلانة.
و إزاء سكوت المشرع التونسي بشأن فحوى الشهادة ، ارتأى جانب هام من فقه القضاء أنه يتعين أن يدلي الشاهدان بما يثبت وجود علاقة شرعية، أي زواج بين والدي الطفل حتى يتسنى إثبات نسبه لأبيه.
و قد ظهرت بوادر هذا الاتجاه بصدور القرار التعقيبي المدني عدد 9210 المؤرخ في 6 مارس 1973*، و الذي تتلخص وقائعه في أن شخصا راود فتاة قاصرة و أغراها. فاستسلمت له. و مكنته من نفسها حتى حملت منه و وضعت بنتا. و كان من نتائج ذلك أن أحيل الشخص المذكور لمقاضاته من أجل مواقعة أنثى برضاها سنها دون العشرين طبقا للفصل 227 مكرر من م.ج. و قد تمّت إدانته . ثم يبدو أن المرأة قامت بترسيم الطفلة باسم والدها المزعوم الذي لم يرض بذلك. و قام بدوره بقضية في نفي نسب الطفلة عنه. فقضت محكمة البداية لفائدة دعواه . و لدى الاستئناف، تم نقض حكم البداية استنادا إلى شهادات أثبتت حصول الخلوة و المخالطة بين والدة الطفلة و والدها المزعوم. فقام هذا الأخير بتعقّب الحكم الاستئنافي. فقرّرت محكمة التعقيب قبول مطلبه شكلا و أصلا و نقض الحكم المطعون فيه معلّلة ذلك بقولها : "و حيث أن القرار قد خرق أحكام النص المذكور (و تقصد به الفصل 68 من م.أ.ش) و أساء تطبيقه لما اعتمد للحكم بثبوت النسب شهادات لم تثبت إلا مجرد المخالطة و الخلوة بين الطرفين و لم تشهد بوقوع الزواج الشرعي الذي يترتب عنه ثبوت النسب".
فالواضح أن محكمة التعقيب تضع شرطا رئيسا للأخذ بالشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب، و هو إدلاء الشهود بوجود زواج شرعي بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه.
علما و أن محكمة التعقيب قد ثبتت على موقفها هذا في قرارات متعدّدة، من بينها القرار التعقيبي المدني عــ760ــدد المؤرخ في 26 أفريل 1977**، و الذي جاء فيه بالخصوص : "طالما أن الشهادة التي
*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1973 ، القسم المدني . ص142.
**- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1977، القسم المدني. ج. 1. ص243.
استندت إليها الطاعنة لا تفيد مطلقا وجود علاقة شرعية كان من نتائجها و من ثمرتها الولد المنسوب إلى المعقب عليه فإن علاقة الزنا ينتفي معها النسب."
كذلك ، و في نفس الاتجاه، صدر القرار التعقيبي المدني عــ26431 المؤرخ في 02 جوان 1992* و الذي تضمن أنه "طالما أن الشهادة التي استندت عليها المدعية لا تفيد قيام فراش صحيح و لا فاسد فلا تصلح سندا للنسب".
و في سنة 1996، أصدرت محكمة التعقيب مجموعة من القرارات** جدّدت من خلالها تأكيدها على ضرورة أن تتضمّن الشهادة ما يفيد وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل. و من بين هذه القرارات القرار التعقيبي المدني عــ51346ــدد المؤرخ في 26 نوفمبر 1996 و الذي جاء فيه : "و حيث أن ما ركزت عليه محكمة الحكم المطعون فيه من اعتماد البيّنة كوسيلة لإثبات النسب يستند إلى تأويل مخطئ لمضمون الشهادة و محتواها و مخالفا للقاعدة التي تقتضي بأنه عند غموض النص أو إجماله يتم الرجوع إلى أهم المصادر التشريعية التي قام عليها ذلك النص، و هو الفقه الإسلامي ليستنار به في استجلاء ما غمض أو توضيح ما أجمل. و حيث أن الفقه الإسلامي يستوجب في مثل هذه الصورة أن تتضمن تلك الشهادة كلّ وقائع الدعوى الرامية لإثبات النّسب، بأن تشهد أن فلانا ابن فلان رزق ولدا شرعيا من زواج شرعي صحيح من أمه فلانة ... و بذلك لم يبق أيّ شكّ في أن تلك الشهادة قد أدرجت بالفصل 68 بقصد
*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1992، القسم المدني. ص183.
**- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1996، القسم المدني. ج2. ص225 و 228 و 231.
إثبات البنوّة الشرعية لا غير. و بالتالي فإن البنوّة الطبيعية غير واردة أصلا ضمن النصوص الوضعية لمادة إثبات النسب...".
و هكذا، فإن محكمة التعقيب قد سدّت الفراغ الموجود صلب الفصل 68 من م.أ.ش بخصوص فحوى الشهادة، فضبطت هذه الفحوى في الإدلاء بما يثبت وجود علاقة شرعية . و بذلك تكون قد ألغت كلّ فائدة أو معنى لبقاء الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب ضرورة أن إثبات العلاقة الشرعية يعني إثبات الفراش أي أنه يحيلنا إلى الوسيلة الأولى من وسائل إثبات النسب.
إلا أنّ ما تجدر ملاحظته بخصوص القرار السابق الإلماع إليه، هو أن هذا القضاء قد أطلق حكما، و وضع قاعدة لم تكن الحاجة تدعو إلى وضعها. و ذلك حين ذكرت محكمة التعقيب أن البنوّة الطبيعية غير واردة أصلا ضمن النصوص الوضعية لمادة إثبات النسب. فكأننا بمحكمتنا العليا تقصي كلّ إمكانية لإضفاء الشرعية على الطفل الطّبيعي و لو كان ذلك قائما على إقرار والده بالنّسب.
الفقرة ( 2) : فقه القضاء و اشتراط العلاقة الشرعية لإثبات النّسب بالإقرار.
مبدئيا، فإن الإقرار يلوح أيسر سبيل يمكن للطفل الطبيعي أن يسلكه لاكتساب الشرعية ، لأنه يعدّ امتدادا لمفهوم الاستلحاق الذي ينهض على اعتراف بالأبوّة نابع عن عمل إرادي صادر عن الأب ، دون أن يكون هذا الأخير مدعوّا إلى الكشف عن هويّة والدة الطّفل المعترف بنسبه و لا عن طبيعة العلاقة التي جمعت بينهما.
و لكن جانبا من فقه القضاء التونسي لم يحفظ للاستلحاق أو لنقل للإقرار الوارد بالفصل 68 من م.أ.ش مرونته ، و لم يتّخذه وسيلة تحقّق تشوّف و تطلّع التّشريعين الإسلامي و التونسي لإثبات الأنساب، بل تشدّد في الأخذ بالإقرار. و ضيّق في مفهومه باشتراطه إثبات العلاقة الشرعية، لاعتماد الإقرار كوسيلة من وسائل إثبات النّسب. فيكون فقه قضائنا المذكور قد أفرغ الإقرار من كلّ مضمون و أعدم كلّ فائدة منه. فأيّ معنى للحديث عن الإقرار بالنّسب إذا كان المطلوب من المقرّ أن يدلي بوجود علاقة شرعية بينه و بين والدة الطفل، ألا ينتهي ذلك إلى إقرار بالزّواج الذي لا يعدو كونه وسيلة مستقلة من وسائل إثبات النّسب و مختلفة عن الإقرار .
لكن، و رغم ما في اشتراط العلاقة الشرعية من تضييق حيث تقتضي الضرورة التّوسعة، و من إعدام لكلّ فائدة من الإقرار كوسيلة مستقلّة من وسائل إثبات النّسب ، فإن بعض محاكمنا لم تتردّد في اشتراط إدلاء المقرّ بوجود زواج بينه و بين والدة الطفل حتى يُعتدّ بإقراره و يؤخذ به في إثبات النسب. و لنا في بعض الأحكام و القرارات القضائية ما يعكس هذا التوجّه. فقد تعهّدت محكمة الاستئناف بصفاقس* بقضية في إثبات النسب أفادت وقائعها أنّ رجلا و امرأة تساكنا مدّة عام و نصف العام تقريبا ثم افترقا. و بعد بضعة أشهر من ذلك وضعت المرأة طفلا رسّمته بدفاتر الحالة المدنية تحت اسمها نظرا لاعتقادها أنّ ترسيم الطفل باسم أبيه يستدعي الإدلاء برسم صداق. و بعد انقضاء تسعة عشر عاما تقريبا ارتأت الأمّ أن تقوم بقضيّة في إثبات نسب ابنها أثارتها ضدّ الوالد المزعوم مدّعية أنّه كان تزوّجها على العرف الجاري و عاشرها على ذلك الأساس حتى حملت منه . إلاّ أنهما تفارقا فيما بعد . و حضر المدّعى عليه أمام المحكمة و اعترف بوجود العلاقة الزوجية المزعومة كما أقرّ بنسب الطّفل.
*- انظر قرار محكمة الاستئناف بصفاقس عدد 575، المؤرخ في 20 أفريل 1975. م.ق.ت لسنة 1975. ج.1 ص143. مع تعليق الأستاذ ساسي بن حليمة.
غير أن المحكمة الابتدائية بصفاقس لم تأخذ بذلك الإقرار بمقولة أنّ إثبات النسب يقتضي الإدلاء بما يثبت العلاقة الزوجيّة بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه. و قد تأيّد حكمها لدى الطّور الاستئنافي علما و أنّ محكمة الاستئناف قد أسّست قضاءها على انعدام صفة القيام لدى الأمّ المدّعية ضرورة أنها لم تكن مقدّمة وقتيّة على ابنها الذي طالبت بإثبات نسبه.
كذلك، و في نفس السياق، أصدرت محكمة التعقيب عددا من القرارات التّعقيبية المدنيّة، اشترطت من خلالها الإدلاء بما يفيد وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل المراد إثبات ن