هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المدير أ/ طه العبيدي
Admin
المدير أ/ طه العبيدي


عدد الرسائل : 5241
الإسم و اللقب : رجال القانون
نقاط : 5743
تاريخ التسجيل : 19/01/2008

الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Empty
مُساهمةموضوع: الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي   الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Emptyالثلاثاء أبريل 19, 2011 11:25 am

الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي

الجمهورية التونسيـــة
وزارة العدل
المعهد الأعلى للقضاء


الطّفْـــل الطّبيــــعِي

رسالة تخرّج و نيل شهادة ختم الدروس
بالمعهد الأعلى للقضاء



من إعداد الملحق القضائي :
نور الدين الزياتي


الأستاذ المؤطر :
ساسي بن حليمة

السنة القضائية : 2000-2001




قائمة المختصرات
* م.ق.ت : مجلة القضاء و التشريع.
* م.أ.ش : مجلة الأحوال الشخصية.
* م.م.م.ت : مجلة المرافعات المدنية و التجارية.
* م.ا.ع : مجلة الالتزامات و العقود.
* م.ج : المجلة الجنائية.






المقدمــــة :
لو تركت العلاقات بين الجنسين من غير تنظيم لانتهي الأمر إلى تفشي الرذيلة و اختلاط الأنساب و اندثار مفهوم العائلة ، لذلك شرع الله الزواج ليكون إطارا أمثل لتزايد النوع البشري و استمرار الخليقة على وجه البسيطة .
وقد كان من نتيجة جعل الزواج إطارا شرعيا للعلاقات بين الزوجين نسبة الأولاد الذين تثمرهم تلك العلاقات إلى آبائهم من جهة، و عدم الاعتراف بالأبناء المولودين خارج إطار الزواج و اعتبارهم أبناء زنا أو أبناء طبيعيين .
فالابن الطبيعي، أو ابن الزنا هو ثمرة لعلاقة جنسية خضعت لقانون الطبيعة الذي تسير عليه سائر الكائنات الحية ، القائم على الاستجابة إلى الغرائز دون تثقيفها و تنظيمها ووضعها في إطار قانوني محدد. لذلك، فقد عومل الطفل الطبيعي بشيء من الجفوة و نظر إليه نظرة ازدراء و احتقار عبر العصور، فلم يعترف له التشريع الإسلامي بأي حقوق إزاء والده البيولوجي. فلا نسب و لا نفقة و لا إرث. بل إن أقصى ما يناله ابن الزنا أي الابن الطبيعي هو ثبوت نسبه من أمه بمجرد ولادته في جميع الأحوال و من غير حاجة إلى إثبات أو دليل *.
و هكذا، فقد حرم الطفل المتولد من علاقة سفاح من نعمة النسب بمقولة أن هاته النعمة لا تتأتى

*- انظر مذكرة الرئيس عبد الرؤوف بن الشيخ : الوضعية القانونية للبنوة الغير الشرعية في القانوت التونسي، ص2.
من طريق محرم*. وهي المقولة التي تنهض على قول الرسول الكريم إن الولد للفراش و للعاهر الحجر. و في الواقع، فإن التشريع الإسلامي لم ينفرد في حكمه بعدم إثبات نسب أبناء الزنا عن باقي التشاريع السماوية و الوضعية الأخرى ، بل إن هذه التشاريع قد أنكرت بدورها أي حق للأبناء المذكورين آنفا، لأنها كانت تقوم على أسس أخلاقية تنبذ الرذيلة و تقدس الزواج و تجعله الإطار الأمثل للإنجاب، لما في ذلك من حفاظ على مفهوم العائلة الشرعية و الخلية الاجتماعية بأسرها. من ذلك أن القانون الروماني كان يلحق ابن الزنا بوالدته و لا يقر له بأي حق في النسب.
إلا أنه، و انطلاقا من تنبه بعض التشريعات إلى عدم مسؤولية الطفل عما اقترفه والداه و إلى الحاجة إلى إنصاف ولد الزنا و إيلائه بعض العطف و العناية، فقد اعترفت له تلك التشريعات ببعض الحقوق تدريجيا حيث اعترف القانون الفرنسي القديم بأبناء الزنا، و أتاح للطفل المولود خارج إطار الزواج الحق في إثبات بنوته، و لكن دون أن يسمح له بالانتماء للعائلة الشرعية لوالده و ذلك حفاظا على وحدة تلك العائلة و استقرارها.
ثم، و في مرحلة لاحقة، حصل بعض التراجع. فوقع الاكتفاء بالسماح لوالدة الطفل الطبيعي بالتصريح بحملها، و ذلك في شكل قسم. و قد اصطلح على تسمية هذا الإجراء بـ L'adage ، فإذا أقسمت والدة الطفل بأنها قد حملت به من شخص معين جاز لها أن تطالب ذلك الشخص بمدها ببعض
المال الذي سمي بـles frais de gésine إلا أنها تبقى مطالبة بإرجاع ما تسلمته من مال للوالد المزعوم إذا خابت في إثبات النسب.

*- انظر عمر عبد الله : أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية، ط.2، ص 466.
و عقب ذلك أقرت مجلة نابليون، الصادرة في 1804، بحق الطفل الطبيعي في المطالبة بإلزام والده المزعوم بالإنفاق عليه عبر اللجوء إلى المحكمة. و قد كرس ذلك بالفصول 762 و 763 و 764 و 908 من المجلة المذكورة. و لو أن هذه الأخيرة قد تضمنت صلب فصولها 335 إلى 342 ما يفيد تحجير إضفاء الشرعية على أبناء الزنا و ذلك بدعوى الحرص على حماية العائلة الشرعية .
و قد سارت معظم التشاريع الغربية هذا المسار إلى أواسط القرن المنصرم تقريبا ، فقد اعترف القانون الفرنسي المؤرخ في 15/07/1955 بحق الطفل الطبيعي في النفقة مع الحرص على ألا تكون دعوى النفقة مطية للمطالبة بإثبات النسب، كذلك فقد ذهب القانون البلجيكي المؤرخ في 10/02/1958 إلى منع الاعتراف بنسب ابن الزنا و اكتفى في المقابل بإعطائه الحق في النفقة. و قد انتحى المشرع الإسباني نفس المنحى.
و أخيرا، فقد اعترفت معظم التشاريع الغربية بأبناء الزنا من ذلك نذكر التشريع الإيطالي لسنة 1942 الذي كان سباقا في السماح بإثبات نسب الطفل الطبيعي بطرق شتى كإقرار والديه بذلك إن كانا على قيد الحياة، أو إقرار من بقي منهما حيا ، إن توفي الآخر، علما و أن هذا الإقرار الأخير يستدعي القيام ببعض الإجراءات الإضافية التي لا يتسع المجال لذكرها، أو بالزواج اللاحق لوالدي الطفل حيث يعترف كل منهما بإنجاب الطفل من نسله بمناسبة إقامة مراسم الزواج*.

*- حول مجمل التطورات التاريخية التي مرت بها وضعية الطفل الطبيعي في بعض القوانين الغربية، انظر La condition juridique de l'enfant adultérin en droit italien.Goulet Jean marie. Thèse 1963. p.1 et s.
هذا، و قد تغيرت نظرة المشرع الفرنسي إلى الطفل الطبيعي منذ صدور قانون 3 جانفي 1972. حيث بدأ الاعتراف له تدريجيا بالحق في إثبات بنوته، إلى أن انتهى الأمر إلى تكريس مساواة شبه كلية بين جميع الأبناء، بصرف النظر عن ظروف ولادتهم، و ذلك بصدور القانون المؤرخ في 08 جانفي 1993.
و هكذا ، فإن الفوارق بين الطفل الطبيعي و الطفل الشرعي قد تلاشت تقريبا في معظم البلاد الغربية ، إلا أن ذلك لم يلغ التقسيم المتعارف لأنواع البنوة ن و الذي تصنف البنوة بمقتضاه أصنافا عدة . فقد تكون بنوة شرعية Filiation légitime ، و هي البنوة التي تستند إلى زواج شرعي . و قد تكون بنوة طبيعية Filiation naturelle ، يكون فيها الوالدان غير مرتبطين بزواج ، و قد تكون البنوة كذلك بنوة زنا Filiation adultérine إذا كان أحد والدي الطفل متزوجا بالغير . كذلك، قد يكون الطفل قرابيا Enfant incestueux إذا وجد بين والديه مانع من موانع الزواج . و أخيرا ، فقد تكون البنوة بنوة تبن Filiation adoptive إذا كانت بنوته ناتجة عن تبن*.
إلا أن ما يجب التنبيه إليه أن المقصود بالطفل الطبيعي، في دراستنا هذه، ليس الطفل المتولد عن علاقة بين رجل و امرأة لا يرتبطان بزواج مع الغير، بل هو الطفل الناتج عن علاقة غير شرعية مهما كان نوعها. و بالتالي، فإن ما نعنيه بالطفل الطبيعي هو ابن الزنا كما عرفته قواعد التشريع الإسلامي ، أي كل طفل ولد خارج إطار الزواج .
هذا ، و بالرجوع إلى القانون التونسي ، يتضح أنه قد اعترف مبدئيا بنوعين من أنواع البنوة، هما

*- انظر Jean Carbonnier: Droit civil, la famille, T.2, PUF, (Collection Thémis droit), 19éme édition, 1998.
البنوة بالتبني التي أقرها القانون عـ27ـدد لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني*. و كذلك البنوة الشرعية و المعبر عنها بالنسب.
هذا، و لعبارة النسب مفهومان ، مفهوم واسع و آخر ضيق.
فأما المفهوم الواسع للنسب، فيعني العلاقة الموجودة بين جميع أفراد العائلة الواحدة، و لو كانوا من الأباعد. فالنسب بهذا المفهوم يعني القرابة La parenté.
و أما المفهوم الضيق للنسب فيعني العلاقة الشرعية أو القانونية الرابطة بين الطفل و والده. و قد يبدو ذلك غريبا ضرورة أن الطفل يولد من ذكر و أنثى، فلم الإشارة إلى الأب و إغفال الحديث عن الأم تماما ؟
في الواقع، فإن نظرة المشرع هذه موروثة عن التقاليد العربية في الجاهلية حين كانت القبيلة هي الأساس، و هي بمثابة الأسرة الموسعة فكان ارتباط إفراد الأسرة الأعضاء كارتباط أفراد القبيلة الأم مؤسسا على النسب المبني على قرابة العصوبة أي قرابة الرجال الذين كانت النصرة بهم و الذين كانت لهم حقوق الإرث و غيرها. و قد انتقلت هذه النظرة إلى النسب إلى التشريع الإسلامي و منه إلى التشريع التونسي**.

*- انظر الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عـ19ـدد لسنة 1957.
**- حول مفهوم النسب انظر أطروحة الأستاذ ساسي بن حليمة: La filiation paternelle légitime en droit Tunisien, p. 9 à 16.
فالنسب، في التشريع الإسلامي و كذلك التشريع التونسي، يعني ارتباط الولد بأبيه ارتباطا شرعيا و بيولوجيا. و هو ما يفترض أن الطفل ناتج من صلب والده و في إطار علاقة شرعية أي زواج لا علاقة سفاح و خناء .
و قد بين الفصل 68 من م.أش الوسائل المعتمدة في إثبات النسب علما و أن ثبوته يخول للطفل التمتع بكافة حقوقه إزاء والده و المتمثلة أساسا في حمل اللقب العائلي و الحق في النفقة و الإرث .
و هكذا، فان المشرع التونسي قد أهمل الحديث عن الطفل الطبيعي و لم يستعمل مطلقا كلمة "الابن الطبيعي" في أي نص من النصوص القانونية، و لم يكلف نفسه عناء السعي إلى تنظيم وضعية قانونية له، ولو بجعله في منزلة تقل درجة عن منزلة الابن الشرعي. بل إن غاية ما فعله مشرعنا هو التنصيص، صلب الفصل 152 من م أش، على حكم مفاده أن ابن الزنا يرث من أمه و قرابتها و ترث منه أمه و قرابتها. وهو ما يفيد بمفهوم العكس انه لا يرث من والده و قرابته و لا يرثه والده و قرابته. فهو مقطوع بالأخارة عن نسب والده و لا علاقة قانونية تربط بينهما.
فالواضح مما أنف عرضه، أن المشرع التونسي قد اعتمد حلين مختلفين تمام الاختلاف بالنسبة إلى الأبناء، فإما أن يكون نسبهم ثابتا فيمتعون عندئذ بجميع حقوقهم، و إما أن يكون ذلك النسب غير ثابت فيعتبرون أبناء زنا و لا حق لهم إلا في إرث والداتهم .
و لكن، ما تجدر الإشارة إليه هو أن المشرع التونسي قد وضع وسائل ثلاث لإثبات النسب، و هي الفراش و الإقرار و البينة ، علما و أن هذه الوسائل هي وسائل مستقلة عن بعضها البعض .
و هذا الأمر من شأنه أن يسمح بإثبات نسب الطفل، و لو أنه كان مولودا خارج إطار الزواج، كما لو أقر له والده بالنسب أو أفادت بينة الشهود بذلك. إلا أنه ، و رغم المرونة و التوسع اللذان ميزا صياغة الفصل 68 من م.أ.ش فإن فقه القضاء التونسي قد طبقه تطبيقات متباينة. فذهب تارة إلى التوسع في مفهوم الزواج أو إلى الأخذ بالإقرار و الشهادة كوسيلتين مستقلتين بذاتهما من وسائل إثبات النسب، و ذهب طورا آخر إلى التضييق في قراءة الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية بشكل جعله يضيق في مفهوم الزواج أو يشترط توفر العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالشهادة أو بالإقرار .
و هكذا ، فقد بدت وضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي وضعية مشوبة بالغموض و عدم الاستقرار، و ظل الطفل المذكور خاضعا لاجتهادات فقه القضاء في قراءته للفصل 68 من م.أ.ش . و أمام ذلك، و في ظل تعالي الأصوات المنادية بحماية حقوق الطفل، و في مقدمتها حقه في الهوية، و بعد صدور مجلة حماية الطفل سنة 1995، اتجهت إرادة المشرع سنة 1998 إلى التفكير في إرساء نظام قانوني خاص بوضعية الأبناء المولودين خارج إطار الزواج. فكان أن وضعت اللبنة الأولى لذلك النظام، و ذلك بسن القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، و الذي أقر بحق الطفل الطبيعي في إثبات الأبوة ، و رتب عن توفقه في تحقيق ذلك بعض الآثار الهامة. و في مقدمتها الحق في حمل اللقب العائلي للأب و الحق في الرعاية من نفقة و حضانة، علما و أن قانون 1998 لم يحسم في مسألة الإرث، فأغفلها و تجنب الحديث لا بالتصريح و لا بالتلميح.
هذا، و يمكن تعريف الحق في إثبات الأبوة بكونه ذلك الحق المخول للطفل في المطالبة بربط صلته الدموية بوالده البيولوجي و الكشف عنها و إقرارها قضائيا. فهو يعني، بالتالي، إثبات العلاقة البيولوجية بين الطفل و والده. و هو يختلف، بذلك، عن النسب الذي يفيد، كما تقدم عرضه، وجود علاقة بيولوجية و أخرى شرعية بين الطفل و والده في الآن نفسه.
و على العموم ، فإنه يبدو أن الطفل الطبيعي في القانون التونسي قد بات خاضعا، في الآن نفسه، لنظامين قانونيين متباينين أحدهما متكامل ، و نعني به الأحكام المنظمة للنسب، و الآخر في طريقه إلى الاكتمال إن توفرت الرغبة التشريعية في ذلك طبعا ، و نقصد به الأحكام المنظمة لإثبات الأبوة المكرسة بالقانون عـ75ـدد لسنة 1998.
لذلك ، و في انتظار التوصل إلى إرساء نظام قانوني متكامل و مستقل بذاته يكون خاصا بالأطفال المولودين خارج إطار الزواج و مستقلا عن الأحكام المنظمة للنسب، فإن هذه الشريحة من الأطفال ستظل خاضعة لنوع من الازدواجية القانونية التي تسمح للطفل الطبيعي ، أو لممثله القانوني ، بالسعي في إثبات نسبه ، إن تهيأ له ذلك و توفرت لديه وسيلة من وسائل إثبات النسب، أو قصر سعيه على إثبات بنوته إن اتجهت رغبته ، أو رغبة من يمثله ، إلى ذلك . علما و أن إثبات الأبوة قد يكون أقرب منالا إلى الطفل نظرا لكون الغاية منه هي إثبات بنوة غير شرعية لا ينتظر أن يتشدد فقه القضاء في الحكم بها بمجرد قيام الدليل على وجود العلاقة البيولوجية بين الطفل و والده و هو أمر سهل الإدراك ،مبدئيا، لا سيما في صورة استجابة المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة إلى إجراء تحليل جيني ، كما سنراه لاحقا بمزيد من التفصيل.
و هكذا ، فإن السؤال الهام الذي علينا أن نحاول الإجابة عنه، من خلال هذه الدراسة، هو ذلك السؤال المتعلق بوضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي. و هو سؤال يكتسي أهمية نظرية و عملية بالغة نظرا لتكاثر هذه الشريحة من الأطفال و تزايد عددها باطراد.
فما هي وضعية الطفل الطبيعي في القانون التونسي ؟



ذلك ما نروم الخوض فيه، علما و ان مدار بحثنا سينحصر في محورين اثنين، يخصص الأول منهما إلى تناول مسألة الطفل الطبيعي و النسب ( الجزء الأول)، في حين يخصص الثاني للنظر في مسألة الطفل الطبيعي و الأبوة ( الجزء الثاني).








الجزء الأول : الطّفل الطبيعي و النّسب

هل يمكن إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ذلك هو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا الصدد . وهذه الإجابة لن تكون بالأمر الهيّن ولا اليسير ذلك أن المواقف قد تباينت بين رافض لإثبات نسب الطفل المولود خارج إطار الزواج و قابل بإثبات ذلك النسب.
فأما الرافضون لإثبات نسب الطفل الطبيعي فإنهم يؤسسون رفضهم على مجموعة من الأسانيد و الأسس التي تحول دون ذلك الإثبات في نظرهم ، و هم يقسمون هذه الأسانيد و الأسس إلى أسس و أسانيد تشريعية و أخرى قضائية .
و أما أنصار القول بإمكان إثبات نسب الطفل الطبيعي ، فإنّهم يستندون بدورهم إلى عدد من الحجج و الدعائم التشريعية و القضائية التي يقدّمونها للانتصار إلى موقفهم المذكور.
تلك إجمالا إجابتنا على السؤال الذي تقدّم طرحه و لكن ليس بالإجمال يتضح الحال ، بل إن اتضاحه يقتضي منّا الخوض في دقائق هذه المواقف المتباينة من مسألة إثبات نسب الطفل الطبيعي، و هو ما نروم القيام به ضمن قسمين اثنين من هذا الجزء، يخصص الأول منهما للحديث عن الموقف القائل بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي (القسم 1) ، بينما يخّصص الثاني لتناول الرأي القائل بإثبات نسب الطفل الطبيعي (القسم 2 ).

القسـم(1) : عدم إثبات نسب الطفل الطبيعي
التفّ حول الرأي القائل بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي عدد هام من الفقهاء و شرّاح القانون ، كما انتصرت له عديد المحاكم من خلال ما أصدرته من أحكام و قرارات قضائية .
فإن قال قائل إن سبب الرفض هو تحامل على الطفل الطبيعي لا سند له و لا مبرّر كانت إجابة الرافضين لإثبات نسب الطفل المتحدث عنه أن رفضهم يستند إلى أسانيد تشريعية (المبحث 1) و أخرى قضائية (المبحث 2) من شأنها تبرير موقفهم .
المبحث (1) : الأساس التشريعي لعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي
يذهب القائلون بعدم إمكان إثبات نسب الطّفل الطبيعي إلى أن التشريع الإسلامي وكذلك تشريعنا الوضعي ، لا يعترفان بالنسب إلا للأطفال المولودين في إطار علاقة شرعية.
ومن ثمة فإنه لا مجال لإثبات نسب الطّفل الطبيعي وذلك بالنظر إلى رفض التشريع الإسلامي (فقرة 1 ) وكذلك التشريع التونسي لمثل هذا الإثبات (فقرة 2)
فقرة (1) : عدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطّفل الطّبيعي :
لا جدال في أن التسليم بأمر أو رفضه لا يمكن أن ينهض على فراغ، لذلك فإنه في سياق حديثنا عن رفض التشريع الإسلامي لإثبات نسب الطفل الطبيعي علينا أن نتساءل عن مبنى القول بهذا الرفض (أ) وأن ننظر في مدى وجاهة ذلك القول (ب).

-أ- مبنى القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي :
ينطلق القائلون برفض التشريع الإسلامي لإثبات نسب الطفل الطبيعي للتدليل على صدق قولهم من الحديث النبوي الشريف المتضمّن أنّ : "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وهذا الحديث المنسوب للرّسول الكريم يحتاج إلى بيان مدلوله وفحواه، لكن قبل ذلك يتجه البحث في مدلول كلمة الفراش الواردة ضمنه.
الفراش لغة : هو كلّ ما يبسط ويفرش ومنه المفرش. وأمّا شرعا : فقد عرّفه أبو الحسن علي الجرجاني بقوله : " الفراش هو كون المرأة متعينة للولادة لشخص واحد هو زوجها"* فالفراش يفيد الزّواج الذي يتم بموجبه لحوق النّسب بصاحبه دون حاجة إلى دليل آخر.
ويشمل الفراش الزواج الذي استوفى جميع أركانه وشروطه الشرعية ، وكذلك الزواج العرفي أي الذي تمّ فيه الرّضا ولم تتبع فيه الطريقة النظامية أي لم يقع إفراغه في شكل حجة رسمية .**
هذا ، وقد عرّفت محكمة التعقيب الفراش بقولها : "إن المقصود من لفظ الفراش الوارد بالفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية هو الزواج الشرعي كيفما كان وجه إبرامه و لا يندرج في مدلوله و مرماه رابطة الاتصال الناتج عن علاقة الزنا***.

*- التعريفات للجرجاني . الدار التونسية للنشر . ص 89.
**- انظر مقال الأستاذ الهادي كرو : "الولد للفراش" م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 1972. ص11.
***- انظر القرار التعقيبي المدني عـ4339ـدد المؤرخ في 06 جانفي 1981 م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 81. ص61.

فإذا كان تعريف الفراش ما تقدم بسطه ، فما هو إطار قول الرسول الكريم أن الولد للفراش و للعاهر الحجر ؟ و ما هو مدلول هذا القول و معناه ؟
فأما عن إطار صدور الحديث النّبوي المذكور آنفا ، فقد روي عن عائشة أنه كان عتبة ابن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد ابن أبي وقاص إن ابن وليدة زمعة منّي فأقبضه إليك .
فلما كان عام الفتح أخذه سعد ابن أبي وقاص و قال : ابن أخي قد كان عهد إلي فيه . فقام إليه عبد ابن زمعة فقال : أخي و ابن وليدة أبي ولد على فراشه .
فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال سعد : يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد ابن زمعة فقال :أخي و ابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد ابن زمعة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الولد للفراش و للعاهر الحجر ، ثم قال لسودة بنت زمعة : احتجبي عنه : لما رأى من شبهه بعتبة ابن أبي وقاص . قالت عائشة فما رآها حتى لقي الله عزّ و جلّ* .
و هكذا فقد قضى الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بالولد لزمعة رغم قناعته بأنه ابنا لعتبة بناء على ما لاحظه بينهما من شبه . و لا أدلّ على ذلك من أنه صلى الله عليه و سلم قد أمر زوجته سودة بنت زمعة بالاحتجاب عنه و هو أخوها شرعا و لكن العلاقة التي تربطها به شرعية لأنه ولد على فراش أبيها .

*- انظر ابن رشد : "بداية المجتهد و نهاية المقتصد" ج.2 ص357.
فالمستفاد مما سبق عرضه أنّ للولد الذي حصل بشأنه النزاع نسبين : نسب شرعي يلحقه بزمعة لأنه ولد على فراشه ، و نسب طبيعي يلحقه بعتبة لأنه ثمرة زناه مع وليدة زمعة ، و لكن هذا النسب ليس له وجود لأن الشرع يرى فيه خيبة*. فالطفل يلحق بالزواج أي بزوج أمه و أما العاهر أي الزاني فجزاؤه الحجر أي الرّجم .
هذا ، و بخصوص مدلول قول الرسول صلى الله عليه و سلم : "الولد للفراش و للعاهر الحجر" . فإنّ هذا القول يعني ترجيح العلاقة الشرعية أي الزواج على العلاقة غير الشرعية في صورة التزاحم بينهما بشأن إثبات النسب ، كما يعني فضلا عن ذلك النهي عن العلاقة الخنائية من خلال زجر مرتكبيها و ترتيب عقاب لهم .
إن الحديث الذي حضنا في تبيان فحواه ، اتخذ من قبل أنصار القول بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي آية و دليلا على صدق قولهم و رجحان مذهبهم ، فهم يرون أن البنوة معنى من معاني الحياة السامية و هي أساس للارتباطات البشرية على اختلاف درجاتها ، و لسلامة هذه الارتباطات شرع الله الزواج لغايات سامية في مقدّمتها بقاء النوع البشري عن طريق شرعي و هذا لا يكون إلاّ إذا جاء أولاد الرجل و المرأة بطريقة الزواج . و لكي ينشأ هؤلاء الأولاد نشأة كريمة شرع الله لهم حقوقا مختلفة أولها ثبوت النسب .


*- انظر مقال الأستاذ الهادي كرو "الولد للفراش" م.ق.ت. عـ2ـدد لسنة 1972. ص11.

فإذا انتفى النسب صار الولد من زنا ، و الزنا شرعا لا يثبت نسبا لأنه بمثابة الفعل الخالي من أي شبهة مسقطة للحدّ فهو نقمة و جريمة و الولد الناتج عن نكاح الزنا لا يلحق بالزاني خوفا من أن يعمّ الفسق و ينتشر الفساد و تختلط الأنساب لقوله تعالى بعد بيان المحرّمات من النساء : و أحلّ لكم ما وراء ذلكم إن تبتغوا بأموالكم محصّنين غير مسافحين .فالمجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على مفهوم العائلة الشرعية التي تتأسس على الزواج الذي يوفر إطارا لممارسة الحقوق و الواجبات بين أفراد العائلة الواحدة* .
لكن لسائل أن يتساءل لم نؤاخذ الطفل بجريرة أبويه فنعتبره طفلا غير شرعي ؟ ألا يتنافى ذلك مع قوله تعالى في كتابه الحكيم : "لا تزر وازرة وزر أخرى " ؟.
إن الرد عن ذلك يقتضي منا البحث في مدى وجاهة القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي .
_ب_ مدى وجاهة القول بعدم إثبات التشريع الإسلامي لنسب الطفل الطبيعي :
نتساءل في هذا الإطار : هل أن التشريع الإسلامي يرفض حقا إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ و بعبارة أدّق : هل أن الحديث النبوي القائل إن الولد للفراش و للعاهر الحجر يقوم حائلا دون إثبات نسب الطفل الطبيعي ؟ .

*- انظر مؤلف الرئيس عبد الرؤوف بن الشيخ : "الوضعية القانونية للبنوة الغير شرعية في القانون التونسي"، مذكرة 1979، ص5.

جوابا عن ذلك نقول إنه يتعين حصر نطاق الحكم الشرعي الذي تقدم ذكره و الصادر عن الرسول الكريم في صورة ما إذا عورض الإقرار بالنسب بكون الولد المعترف به قد ولد على فراش شخص آخر لأننا نكون بذلك إزاء تزاحم بين إقرار بالأبوة و فراش شرعي، فعلينا حينها أن نغّلب الفراش لأنه لا مجال للأخذ بالإقرار إذا كان للطفل نسب معلوم .
و فضلا عن ذلك فإن حكم الرسول الكريم بإسناد الطفل لمن كان يتمسّك بالفراش له ما يبرره لأن المنطق و الضرورة يقتضيان أن يغلب الزواج بوصفه علاقة شرعية على العلاقة الخنائية ، فلو قضى الرسول بإسناد الطفل لمن كان يتمسك بالعلاقة البيولوجية ، لأمكن للبعض القول إن التشريع الإسلامي يشرّع لعلاقة السّفاح ويقرّها ، ولاحتدت المنازعات وتعدّدت حول النّسب وهبّ العديد للمطالبة بحقوقهم المزعومة في إثبات أنساب أطفال ولدوا من صلبهم ولو أنّ أمّهاتهم مرتبطات بزواج مع الغير.
ومماّ تجدر الإشارة إليه أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد قضى بالحجر أي الرّجم للعاهر. وعبارة العاهر تشمل والد الطفل ووالدته ولكنها لا تشمله بأيّة حال. لأنه بريء من كلّ ذنب ولا يمكن أن ننسب له أي خطإ أو جرم لكونه ولد نتيجة لعلاقة سفاح*.
وعموما، فإن القول بأن التشريع الإسلامي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي قول يتّسم بالإجحاف إزاء الطفل ، كما يتسم أيضا بإطلاقه حال أن إمكانية تقييده تبدو جائزة. فلو فرضنا

*- انظر نادية آيت زاي : مقال بعنوان : "L'enfant illégitime dans la société musulmane" R.T.D. 1990.p11.
جدلا أن شخصين تقدّما إلى الرّسول الكريم ليفصل في نزاعهما حول أبوّة طفل ، وكانا في حلّ من أيّ علاقة زوجية وكانت والدة الطفل غير متزوجة بدورها فما هو الحلّ الذي كان سيرتئيه إذ ذاك ؟ لا شكّ أنه كان سيقضي برجم أطراف العلاقة الآثمة ثلاثتهم بناء على ارتكابهم للزنا . لكن ماذا عن مآل الطفل ؟ أغلب الظن أنه صلى اللّه عليه وسلّم كان سيسند الطّفل لوالده البيولوجي إن تبين له وجه الفصل بذلك. فنضمن بالتالي، إيقاع الجزاء بمن وقع في المحظور بمن فيهم الوالد البيولوجي للطفل، و الذي سيتحّمل مسؤولية إضافية بإسناد نسب الطفل إليه ، مع ما في ذلك من التزام بالتنشئة والإنفاق. علما وأنّه لا مانع نظريا من توظيف هذا الالتزام على تركة الوالد إن قضى هذا الأخير نحبه بتنفيذ الحكم الصادر ضده بالرجم.
إنّ قول الرسول الكريم بأنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر لا يمكن أن يحول دوما دون إثبات نسب الطفل الطبيعي، ذلك أن التشريع الإسلامي لم يهمل الأبناء المولودين من سفاح، بل كان متشوفا لإثبات أنسابهم حفظا لهم من الانبتات ونأيا بهم عن قسوة المجتمع عليهم وازدرائه منهم.
هذا، ومن آيات تشوّف التشريع الإسلامي لإثبات الأنساب ، أن هذا التشريع قد نظر إلى مسألة النسب نظرة خاصة فجعله بمثابة الرابطة بين الولد وأبيه ، وهذه الرابطة قد تكون ثمرة الفراش أو نتاج إرادة مطلقة للأب في قبول نسب الطفل من عدمه *.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي قد اعتمد الدعوة أو الاستلحاق أو الإقرار بالبنوّة كوسيلة لإثبات النسب. ورتب عليه آثارا تجعل المقر لفائدته بالبنوّة في منزلة الابن الشرعي.

*- انظر كتاب "دراسات في النسب" لمؤلفه السيد علي حسين الفطناسي. ص43.

كذلك، فإن في موقف الرّسول الكريم مع المرأة الغامدية ما يبرّر الدعوة إلى الرّفق بالطّفل الطبيعي وإبداء فضل من المرونة إزاءه. فقد نقل الرّواة أن هذه المرأة وقفت بين يدي الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وسألته عمّا تفعله بولدها الذي أنجبته من سفاح، فأمرها الرّسول بأن تذهب فترضعه وترعاه. ثم عادت إليه ثانية، فأمرها بأن تنصرف إلى تنشئة طفلها وتربيته التربية الصّالحة. وواضح من ذلك أنّ الرّسول قد اهتم لأمر الطّفل ولم يبد أي تحامل تجاهه رغم أنه كان ثمرة سفاح.
وإجمالا، فإنه، و في ظل غياب حكم صريح من الكتاب أو السنّة يبتّ في مسألة إثبات نسب الطفل الطبيعي من عدمه، فإن الخلاف بشأنها سيظلّ قائما بين قائل بجواز إقحام هذا الطّفل في زمرة الأبناء الشرعيين ورافض لذلك. ولو أنّ الرأي المهيمن قد سار في اتجاه القول بأن التشريع الإسلامي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي، شأنه في ذلك شأن التشريع الوضعي التونسي.
الفقرة (2): عدم إثبات التشريع التونسي لنسب الطّفل الطبيعي :
يذهب القائلون بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي إلى التمسّك بأن التشريع التونسي لا يقبل بمثل هذا الإثبات ، وهو ما يؤكده في نظرهم تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوّة الطبيعية واكتفاؤها بالإشارة إلى الأمومة الطبيعية (أ)، فضلا عن وجود نصوص قانونية تنظم وضعية الأطفال المهملين ومجهولي النسب في تشريعنا الوطني (ب).


-أ- تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوّة الطبيعية :
لو أمعنا النظر في أحكام مجلة الأحوال الشخصية لخلصنا إلى استنتاج مفاده أنّ هذه المجلة لا تستعمل البتة مصطلح "البنوة الطبيعية". وهي تتجاهل هذا المفهوم مطلقا إذ أنها تستعمل عبارة "ولد الزّنا " دلالة على الابن المولود خارج إطار الزّواج، وذلك صلب الفصل 152 من مجلة الأحوال الشخصية الوارد ضمن الباب الثامن من الكتاب التاسع من المجلة والذي يتضمن أنّه : "يرث ولد الزّنا من الأم وقرابتها وترثه الأم وقرابتها"*.
وغنيّ عن البيان أن المشرع التونسي لم يقصد من وراء هذا الفصل اليتيم إيجاد نظام قانوني للابن الطبيعي، بل إنّ غايته من وراء وضعه كانت حجب الطفل من إرث والده حجبا كاملا. ذلك أن القراءة العكسية للفصل 152، المذكور آنفا، تفضي إلى القول إنه لا يرث ولد الزّنا من أبيه وقرابته و لا يرثه أبوه وقرابته.
فالتشريع التونسي للأحوال الشخصية قد اعترف بالأمومة الطبيعية، فيظّم علاقة الطفل بوالدته ورتب عن هذه العلاقة ما يترتّب عادة عن أمومة الزواج ، وفي المقابل فإنه قد تغاضى عن الإشارة إلى الأبوّة الطبيعية. وأغلب الظنّ أنّ تغاضيه هذا قد كان مقصودا.


*- انظر مقال الأستاذ ساسي بن حليمة بعنوان : "La filiation naturelle en droit tunisien" in mélenges Mohamed CHARFI C.P.U. 2000.
وبخصوص الأمومة الطبيعية فإن المشرع لم يشترط وسيلة معينة لإثباتها وبالتالي اتجه القول إلى أنها تثبت بكل الوسائل بوصفها واقعة قانونية.
فمجلة الأحوال الشخصية لا تعترف إذن بالبنوة الطبيعية. وهي لا تكرّس إلاّ نوعا واحدا من البنوّة، وهو البنوّة الشرعية أي النسب الذي يتميز بمدلول خاصّ في التشريع التونسي، إذ أنه يعني علاقة الطّفل بوالده لا أكثر . وكأنّ الولد لا يولد لرجل و امرأة. فدور الأم مغيّب بالتالي. وهو ما يسمح بالتساؤل عن أسباب هذا التّغييب؟ جوابا عن ذلك نقول إنّ هاته الأسباب تتلخص في تأثّر مجلة الأحوال الشخصية الواضح بالتشريع الإسلامي وبالحضارة العربية التي تعتبر أنّ الصّلة بالأب هي الشرط الرّئيسي في حمل لقب العائلة أو القبيلة ، وجني ثمرة الانتساب لها.
وهكذا، فإن مجلة الأحوال الشخصية قد تجاهلت الطفل الطبيعي تجاهلا تاماّ تقريبا. ولا شك أن هذا التجاهل لا يخدم إلاّ مصلحة والد الطفل المذكور وإخوته الشرعيين منه، إذ أنّه يعفي الوالد من أي التزام إزاء الطفل، كما أنّه يريح إخوته الشرعيين من أن يشركوا طرفا إضافيا في مال والدهم في قائم حياته وبعد مماته.
و لكن تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية، و إن كان يتوافق مع رغبة والد الطفل الطبيعي و أبنائه الشرعيين، فإنه يلحق الضرر كل الضرر بالطفل و والدته على السواء .
فهو يلحق الضرر بالطفل الطبيعي في المقام الأول لأنه يحرمه من التمتع بنعمة النسب مع ما في ذلك من إهدار لحقوقه المادية إزاء والده من نفقة و إرث، فضلا عن شعوره بالانبتات و التيه الذي قد يولد لديه النقمة و الحقد على المجتمع .
كذلك فإن تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية يضر بوالدة الطفل لأن إحساسها بالأمومة يدفعها غالبا إلى عدم التخلي عن طفلها مع ما في ذلك من تحمل لعناء تنشئته و الإنفاق عليه، و صبر على تحامل العائلة و المجتمع بأسره عليها.
قلنا، يدفعها غالبا، و لم نقل دوما، لأن بعض الأمهات العازبات قد يلجأن أحيانا إلى أسوإ الحلول بقتل مواليدهن أو التخلص منهم بشتى الطرق و الأساليب .
هذا، و قد تدفع الأم و وليدها حياتهما ثمنا لرد اعتبار العائلة المهان و استرجاع شرفها المثلوم. و هي ممارسات توارثتها الأجيال منذ عصور الجاهلية إلى يومنا هذا، و لو أن حدتها قد انحسرت و تراجعت في معظم البلاد نتيجة لتغير أنماط الحياة و تبدل القيم و المفاهيم الأخلاقية .
و إجمالا، يمكن القول إن مجلة الأحوال الشخصية قد تجاهلت البنوة الطبيعية تجاهلا كليا تقريبا، حيث اكتفت بتنظيم علاقة الطفل الطبيعي بوالدته ضمن فصل يتيم اندس بين الأحكام الخاصة بالميراث وكأنه يتوارى من سوءة هذه الوالدة و زللها .
و لا مراء في أن هذا التجاهل قد مثل السند و الحجة القويين للقائلين بعدم إثبات نسب الطفل الطبيعي. و ربما زادت حجتهم قوة و أيدا من خلال نزوع مشرعنا لسن بعض القوانين المتفرقة بهدف تنظيم وضعية الأبناء المهملين و مجهولي النسب، دون أن يرقى ذلك إلى الحديث عن تنظيم قانوني مكتمل للبنوة الطبيعية.


ب : التنظيم القانوني لوضعية الأبناء المهملين و مجهولي النسب :
أمام تجاهل مجلة الأحوال الشخصية للبنوة الطبيعية، حاول المشرع التونسي الإحاطة بشريحة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. و ذلك بسنه لجملة من النصوص القانونية التي ظهرت في تواريخ متلاحقة، و ربما كان ذلك سعيا منه لإحداث نظام قانوني خاص بالأطفال المهملين و مجهولي النسب يكون لهم بمثابة البديل عن منظومة النسب كيفما أوردتها مجلة الأحوال الشخصية .
و في هذا الإطار، فقد صدر القانون عدد27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس1958 و المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني* فأحدث مؤسسة الوليّ العمومي، و جعله في منزلة الولي الشرعي بأن حمّله بما يتحمل به هذا الأخير من واجبات و متعه بما يتمتع به من حقوق إزاء الطفل المهمل و اللقيط و الذي يكون في الغالب طفلا مجهول النسب و فاقدا لولي شرعي.
و قد اعتبر القانون المتحدث عنه آنفا، ضمن فصله الأول، أن متصرفي المستشفيات و المآوى و معاهد الرضع و مديري الإصلاحيات و مآوى الأطفال أولياء عموميين للأطفال اللّقطاء و المهملين عندما يتعهّدون بحفظهم . كما أسند المسؤولية للولّاة في جميع الصور الأخرى ، و نصّ الفصل الثاني من نفس القانون على أن الدولة أو البلدية أو المؤسسة العمومية حسب الحال مسؤولة مدنيا عن أعمال الأطفال المشار إليهم بالفصل الأول من القانون المشار إليه آنفا .


*- انظر القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1958، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 19 الصادر بتاريخ 07 مارس 1958.
هذا، و لا يفوتنا التذكير بما تضّمنه الفصل 27 من القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في 01 أوت 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية من أنه : "على كل شخص عثر على مولود أن يسلمه لضابط الحالة المدنية مع الثياب و الأدباش التي وجدت معه و أن يصّرح بالظروف و الزمان و المكان التي عثر فيها على الولد. و يحرر تقرير مفصل في ذلك ينصّ فيه، زيادة عمّا ذكر، سنّ الولد حسب الظّاهر و جنسه و الأسماء التي سيسمى بها. و يضمّن هذا التقرير بالدفاتر، و يعلم ضابط الحالة المدنية حالا وكيل الجمهورية بذلك .*
و فضلا عن الأحكام السابق الإشارة إليها، فقد صدر القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1956 فنصّ في فصله الأول على أنه ينبغي على كل مواطن تونسي أن يكون له زيادة على اسمه أو أسمائه لقب عائلي . إلا أن عيب هذا القانون كان يكمن في طابعه الظرفي إذ حددت مدة سريانه بخمسة أشهر لا أكثر.
كذلك، سنّ المشرع القانون عـ91ـدد لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985 و المتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب . و قد تضمن في فصله الأول أنه على الولي العمومي اختيار إسم و لقب عائلي لكل من يفتقر من هؤلاء الأطفال لذلك. و قد استمرّ العمل بهذا القانون مدة سنتين بدءا من تاريخ نشره** .
و أخيرا، فقد صدر القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 و المتعلق

*- انظر الفصل 27 من القانون عدد3 لسنة 57 المؤرخ في غرة أوت 57 و المتعلق بالحالة المدنية.
**- انظر مقال الرئيس جمال شهلول بعنوان : "الحق في الهوية" م.ق.ت. جانفي 1999.
بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين و مجهولي النسب فكشف القناع و لو ببعض الاحتشام عن الطفل الطبيعي و حاول إيجاد وضعية قانونية خاصة به.
و هكذا، فقد حاول المشرع التونسي، من خلال مجمل هذه القوانين، إيجاد حلول ظرفية و متقلّبة للأطفال الطبيعيين، و لو أنه التزم الحرص على عدم استعمال مصطلح البنوة الطبيعية و تسمية الأشياء بأسمائها. و قد فسّر القائلون برفض إثبات نسب الطفل الطبيعي سنّ هذه النصوص بأنها محاولة تشريعية دؤوبة لإيجاد وضعية قانونية خاصّة بالطفل الطبيعي تختلف عن مفهوم النسب. و هو ما يؤكد صدق قولهم بأن مشرعنا لا يقبل بإثبات نسب هذا الطفل. و لو كان يقبل بذلك لما احتاج إلى وضع القوانين السابق استعراضها و خاصة القانون عــ75ــدد لســنة 1998، لأن نتيجة ذلك ستكون في النهاية إيجاد وضعية قانونية للبنوة الطبيعية تختلف بالضرورة عن أحكام النسب، و تتعايش معها.
و خلاصة القول، فإن الرافضين لإثبات نسب الطفل الطبيعي قد وجدوا في التشريع الإسلامي كيفما فسّروه، و في توجهات المشرع التونسي، كيفما نظروا إليها، ما يقوي قناعاتهم بأنه لا سبيل لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج . و قد وجد هذا الاتجاه التزكية و التأييد من لدن جانب هامّ و مهيمن من فقه القضاء الذي رفض إثبات نسب الطفل الطبيعي.
المبحث ) 2 ) : الأساس القضائي لعدم إثبات نسب الطّفل الطبيعي .
أبدى جانب من فقه القضاء التونسي بعض الشدّة و التضييق في تطبيقه للفصل 68 من م.أ.ش المتعلق بوسائل إثبات النّسب. فاشترط العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالشهادة -الفقرة (1) - كما اشترط العلاقة الشرعية لإثبات النسب بالإقرار -الفقرة (2) - . و أخيرا فقد أعطى مفهوما ضيّقا للزواج الباطل لإبرامه خلافا للصيغ القانونية - فقرة )3) . و هذا ما أوحى للشّراح و الفقهاء بأن فقه القضاء التونسي لا يقبل بإثبات نسب الطفل الطبيعي.
الفقرة )1) : فقه القضاء التونسي و اشتراط العلاقة الشرعية لإثبات النسب
بشهـادة الشهـود
تولّى المشرع التونسي صلب الفصل 68 من م.أ.ش التنصيص على الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب، إلا أنه سكت بخصوص فحواها، أي بخصوص ما يجب أن يشهد به الشاهدان من أهل الثقة فأكثر.
و مبدئيا، فإن الشاهد يشهد بما رأى أو سمع. و لكن الشاهد في مادّة النسب لا يمكنه أن يعلم بالظروف و الملابسات التي تكون فيها الطفل و حصل فيها العلوق و الحمل.
و خلافا لنظيره التونسي ، فقد حدّد المشرع المغربي فحوى الشهادة صلب الفصل 89 من المدونة المغربية الذي تضمن أنه على الشاهدين أن يشهدا بأن الطفل قد ولد على فراش الشخص المراد إلحاقه بنسبه من زوجته فلانة.
و إزاء سكوت المشرع التونسي بشأن فحوى الشهادة ، ارتأى جانب هام من فقه القضاء أنه يتعين أن يدلي الشاهدان بما يثبت وجود علاقة شرعية، أي زواج بين والدي الطفل حتى يتسنى إثبات نسبه لأبيه.

و قد ظهرت بوادر هذا الاتجاه بصدور القرار التعقيبي المدني عدد 9210 المؤرخ في 6 مارس 1973*، و الذي تتلخص وقائعه في أن شخصا راود فتاة قاصرة و أغراها. فاستسلمت له. و مكنته من نفسها حتى حملت منه و وضعت بنتا. و كان من نتائج ذلك أن أحيل الشخص المذكور لمقاضاته من أجل مواقعة أنثى برضاها سنها دون العشرين طبقا للفصل 227 مكرر من م.ج. و قد تمّت إدانته . ثم يبدو أن المرأة قامت بترسيم الطفلة باسم والدها المزعوم الذي لم يرض بذلك. و قام بدوره بقضية في نفي نسب الطفلة عنه. فقضت محكمة البداية لفائدة دعواه . و لدى الاستئناف، تم نقض حكم البداية استنادا إلى شهادات أثبتت حصول الخلوة و المخالطة بين والدة الطفلة و والدها المزعوم. فقام هذا الأخير بتعقّب الحكم الاستئنافي. فقرّرت محكمة التعقيب قبول مطلبه شكلا و أصلا و نقض الحكم المطعون فيه معلّلة ذلك بقولها : "و حيث أن القرار قد خرق أحكام النص المذكور (و تقصد به الفصل 68 من م.أ.ش) و أساء تطبيقه لما اعتمد للحكم بثبوت النسب شهادات لم تثبت إلا مجرد المخالطة و الخلوة بين الطرفين و لم تشهد بوقوع الزواج الشرعي الذي يترتب عنه ثبوت النسب".
فالواضح أن محكمة التعقيب تضع شرطا رئيسا للأخذ بالشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب، و هو إدلاء الشهود بوجود زواج شرعي بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه.
علما و أن محكمة التعقيب قد ثبتت على موقفها هذا في قرارات متعدّدة، من بينها القرار التعقيبي المدني عــ760ــدد المؤرخ في 26 أفريل 1977**، و الذي جاء فيه بالخصوص : "طالما أن الشهادة التي

*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1973 ، القسم المدني . ص142.
**- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1977، القسم المدني. ج. 1. ص243.
استندت إليها الطاعنة لا تفيد مطلقا وجود علاقة شرعية كان من نتائجها و من ثمرتها الولد المنسوب إلى المعقب عليه فإن علاقة الزنا ينتفي معها النسب."
كذلك ، و في نفس الاتجاه، صدر القرار التعقيبي المدني عــ26431 المؤرخ في 02 جوان 1992* و الذي تضمن أنه "طالما أن الشهادة التي استندت عليها المدعية لا تفيد قيام فراش صحيح و لا فاسد فلا تصلح سندا للنسب".
و في سنة 1996، أصدرت محكمة التعقيب مجموعة من القرارات** جدّدت من خلالها تأكيدها على ضرورة أن تتضمّن الشهادة ما يفيد وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل. و من بين هذه القرارات القرار التعقيبي المدني عــ51346ــدد المؤرخ في 26 نوفمبر 1996 و الذي جاء فيه : "و حيث أن ما ركزت عليه محكمة الحكم المطعون فيه من اعتماد البيّنة كوسيلة لإثبات النسب يستند إلى تأويل مخطئ لمضمون الشهادة و محتواها و مخالفا للقاعدة التي تقتضي بأنه عند غموض النص أو إجماله يتم الرجوع إلى أهم المصادر التشريعية التي قام عليها ذلك النص، و هو الفقه الإسلامي ليستنار به في استجلاء ما غمض أو توضيح ما أجمل. و حيث أن الفقه الإسلامي يستوجب في مثل هذه الصورة أن تتضمن تلك الشهادة كلّ وقائع الدعوى الرامية لإثبات النّسب، بأن تشهد أن فلانا ابن فلان رزق ولدا شرعيا من زواج شرعي صحيح من أمه فلانة ... و بذلك لم يبق أيّ شكّ في أن تلك الشهادة قد أدرجت بالفصل 68 بقصد

*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1992، القسم المدني. ص183.
**- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1996، القسم المدني. ج2. ص225 و 228 و 231.
إثبات البنوّة الشرعية لا غير. و بالتالي فإن البنوّة الطبيعية غير واردة أصلا ضمن النصوص الوضعية لمادة إثبات النسب...".
و هكذا، فإن محكمة التعقيب قد سدّت الفراغ الموجود صلب الفصل 68 من م.أ.ش بخصوص فحوى الشهادة، فضبطت هذه الفحوى في الإدلاء بما يثبت وجود علاقة شرعية . و بذلك تكون قد ألغت كلّ فائدة أو معنى لبقاء الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب ضرورة أن إثبات العلاقة الشرعية يعني إثبات الفراش أي أنه يحيلنا إلى الوسيلة الأولى من وسائل إثبات النسب.
إلا أنّ ما تجدر ملاحظته بخصوص القرار السابق الإلماع إليه، هو أن هذا القضاء قد أطلق حكما، و وضع قاعدة لم تكن الحاجة تدعو إلى وضعها. و ذلك حين ذكرت محكمة التعقيب أن البنوّة الطبيعية غير واردة أصلا ضمن النصوص الوضعية لمادة إثبات النسب. فكأننا بمحكمتنا العليا تقصي كلّ إمكانية لإضفاء الشرعية على الطفل الطّبيعي و لو كان ذلك قائما على إقرار والده بالنّسب.
الفقرة ( 2) : فقه القضاء و اشتراط العلاقة الشرعية لإثبات النّسب بالإقرار.
مبدئيا، فإن الإقرار يلوح أيسر سبيل يمكن للطفل الطبيعي أن يسلكه لاكتساب الشرعية ، لأنه يعدّ امتدادا لمفهوم الاستلحاق الذي ينهض على اعتراف بالأبوّة نابع عن عمل إرادي صادر عن الأب ، دون أن يكون هذا الأخير مدعوّا إلى الكشف عن هويّة والدة الطّفل المعترف بنسبه و لا عن طبيعة العلاقة التي جمعت بينهما.
و لكن جانبا من فقه القضاء التونسي لم يحفظ للاستلحاق أو لنقل للإقرار الوارد بالفصل 68 من م.أ.ش مرونته ، و لم يتّخذه وسيلة تحقّق تشوّف و تطلّع التّشريعين الإسلامي و التونسي لإثبات الأنساب، بل تشدّد في الأخذ بالإقرار. و ضيّق في مفهومه باشتراطه إثبات العلاقة الشرعية، لاعتماد الإقرار كوسيلة من وسائل إثبات النّسب. فيكون فقه قضائنا المذكور قد أفرغ الإقرار من كلّ مضمون و أعدم كلّ فائدة منه. فأيّ معنى للحديث عن الإقرار بالنّسب إذا كان المطلوب من المقرّ أن يدلي بوجود علاقة شرعية بينه و بين والدة الطفل، ألا ينتهي ذلك إلى إقرار بالزّواج الذي لا يعدو كونه وسيلة مستقلة من وسائل إثبات النّسب و مختلفة عن الإقرار .
لكن، و رغم ما في اشتراط العلاقة الشرعية من تضييق حيث تقتضي الضرورة التّوسعة، و من إعدام لكلّ فائدة من الإقرار كوسيلة مستقلّة من وسائل إثبات النّسب ، فإن بعض محاكمنا لم تتردّد في اشتراط إدلاء المقرّ بوجود زواج بينه و بين والدة الطفل حتى يُعتدّ بإقراره و يؤخذ به في إثبات النسب. و لنا في بعض الأحكام و القرارات القضائية ما يعكس هذا التوجّه. فقد تعهّدت محكمة الاستئناف بصفاقس* بقضية في إثبات النسب أفادت وقائعها أنّ رجلا و امرأة تساكنا مدّة عام و نصف العام تقريبا ثم افترقا. و بعد بضعة أشهر من ذلك وضعت المرأة طفلا رسّمته بدفاتر الحالة المدنية تحت اسمها نظرا لاعتقادها أنّ ترسيم الطفل باسم أبيه يستدعي الإدلاء برسم صداق. و بعد انقضاء تسعة عشر عاما تقريبا ارتأت الأمّ أن تقوم بقضيّة في إثبات نسب ابنها أثارتها ضدّ الوالد المزعوم مدّعية أنّه كان تزوّجها على العرف الجاري و عاشرها على ذلك الأساس حتى حملت منه . إلاّ أنهما تفارقا فيما بعد . و حضر المدّعى عليه أمام المحكمة و اعترف بوجود العلاقة الزوجية المزعومة كما أقرّ بنسب الطّفل.



*- انظر قرار محكمة الاستئناف بصفاقس عدد 575، المؤرخ في 20 أفريل 1975. م.ق.ت لسنة 1975. ج.1 ص143. مع تعليق الأستاذ ساسي بن حليمة.

غير أن المحكمة الابتدائية بصفاقس لم تأخذ بذلك الإقرار بمقولة أنّ إثبات النسب يقتضي الإدلاء بما يثبت العلاقة الزوجيّة بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه. و قد تأيّد حكمها لدى الطّور الاستئنافي علما و أنّ محكمة الاستئناف قد أسّست قضاءها على انعدام صفة القيام لدى الأمّ المدّعية ضرورة أنها لم تكن مقدّمة وقتيّة على ابنها الذي طالبت بإثبات نسبه.
كذلك، و في نفس السياق، أصدرت محكمة التعقيب عددا من القرارات التّعقيبية المدنيّة، اشترطت من خلالها الإدلاء بما يفيد وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل المراد إثبات ن


عدل سابقا من قبل المدير أ/ طه العبيدي في الثلاثاء أبريل 19, 2011 11:28 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.tahalabidi-avocat.fr.gd
المدير أ/ طه العبيدي
Admin
المدير أ/ طه العبيدي


عدد الرسائل : 5241
الإسم و اللقب : رجال القانون
نقاط : 5743
تاريخ التسجيل : 19/01/2008

الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي   الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Emptyالثلاثاء أبريل 19, 2011 11:26 am

الـقســم (2): إثبات نسب الطفل الطبيعي
لاحظنا فيما تقدم عرضه أن الإجماع لم يحصل حول عدم إثبات نسب الطفل الـطبيعي ، و أن شـقا من الشرّاح و الفقهاء ظلّ متمسّكا بالرّأي القائل بجواز إثبات نسب الطّفل المولود خارج إطار الزّواج. وهو ينطلق في الدّفاع عن موقفه هذا من وجود أسانيد تشريعيّة تبرره، المبحث (1)، فضلا عن تبنّي جانبا من فقه القضاء له، المبحث2)).
المبحث : (1) الأساس التشريعي لإثبات نسب الطفل الطبيعي
إن التمعن في أحكام التشريع التونسي قد ينتهي بنا إلى القول إن هذا التشريع يتيح للطفل الطبيعي إمكانية الظهور بمظهر الطفل الشرعي ، و ذلك من خلال آليّات ثلاث، أولها تعدّد وسائل إثبات النسب، )فقرة (1، و ثانيها تبني مفهوم واسع للزواج، )فقرة (2، و ثالثها اعتماد مفهوم واسع لأدنى و أقصى مدّة الحمل، )فقرة (3.
الفقرة (1) تعدّد وسائل إثبات النسب :
جاء الفصل 68 من م.أ.شِ ناصّا على أنّه : يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة أو أكثر .
يتضح من قراءة هذا الفصل أن المشرع التونسي قد وضع وسائل ثلاث لإثبات النسب أي البنوة الشرعية ، و هي الفراش أو الإقرار أو شهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر .
فإذا كان الفراش يعني الزواج، فذلك معناه أيضا أن إثـبـات النسب لا يتوقف على وجود الزواج و لا يقتصر عليه . بل إن هذا الإثبات ممكن أيضا باعتماد وسيلتين أخريين هما الإقرار و شهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر .
إن صياغة الفصل 68 من م.أ.ش من الناحية اللّغوية ، لا تدع مجالا للشك في أن المشرع التونسي قد انصرفت إرادته إلى اعتماد وسائل ثلاث في إثبات النسب تختلف الواحدة منها عن الأخرى و تستقل عنها بالضّرورة* .
و هذا الاستنتاج يبرره استعمال أداة العطف "أو" التي تفيد لغة التنويع لا الجمع . فلولا حرص المشرع على عدم الوقوع في التكرار و الإخلال بقواعد اللّغة لأقدم على صياغة الفصل 68 من م.أ.ش الصياغة الآتية : يثبت النسب بالفراش ، و يثبت النسب بإقرار الأب ، و يثبت النسب بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر . و من ثمة فانه يسوغ إثبات النسب بإقرار الأب بالأبوّة دون حاجة لكشف القناع عن والدة الطفل و طبيعة العلاقة التي ربطت بينها و بين المقرّ بالنسب .
كذلك، و في نفس السياق، فإنه يجوز إثبات النسب بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر بأنّ فلانا هو ابن لفلان دون زيادة أو نقصان بشأن العلاقة التي ربطت بين والديه .


* انظر مقال الأستاذ ساسي بن حليمة بعنوان "La filiation naturelle en droit Tunisien " actes de colloques sur le droit de la famille à la fin dus XX siècle Fac, de droit et des Sc. Politiques de Tunis le 25, 26 et 27 novembre 1999 (inédit)".
نقول هذا حال علمنا حقّ العلم أنّ أسهم النقد ستنالنا ، و أن البعض قد يرمينا بالجهالة بمقولة أنه بالرجوع إلى قواعد الشريعة الإسلامية التي تعد مصدرا تفسيريا تكميليا في صورة سكوت المشرع، يستروح أنّ البينة تشهد، علاوة على أنّ فلانا هو ابن فلان، بأنه ابنه من زوجته فلانة. و هو ما أقرته مدوّنة الأحوال الشخصية المغربية صلب الفصل 89 منها والذي تضمن أنه يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو بينة السماع بأنه ابنه ولد على فراشه من زوجته فلانة .
لكن، وردا على النقد المحتمل، نقول متسائلين: ما الذي أثنى مشرّعنا عن صـياغة الفصل 68 من م.أ.ش صياغة مماثلة للفصل 89 من المدونة المغربية للأحوال الشخصية ؟ ألم يكن في وسعه إضافة تلك الجملة التي تشترط العلاقة الزوجية حتى يتهيأ إثبات النسب بالبينة ؟ ألم يكن على علم بما تضمّنته مصادر الفقه الإسلامي في هذا الخصوص، و في مقدمتها لائحة الشيخ جعيّط و مجلات الأحوال الشخصية التي صدرت في بعض الدول العربية المتأثرة بالشريعة الإسلامية كمصر و سوريا و ذلك قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية في 1956؟.
إن إحجام المشرع التونسي عن تبيان فحوى الشهادة لا يمكن بأي حال أن يكون ناتجا عن سهو أو غفلة ، و لعلّ غاية ما في الأمر أن مشرّعنا قد فعل ذلك حتى يترك مجالا للاجتهاد و إعمال الرأي أمام المحاكم التي يعهد إليها الفصل في قضايا النّسب، وحتى لا يضع نفسه عرضة للنقد الذي قد يلقاه من جانب من الشّراح والفقهاء الذين لن يتوانوا في التساؤل عن مغزى الحديث عن البيّنة كوسيلة من وسائل إثبات النّسب مع حصر مضمونها في الزّواج. أليس ذلك تزيّدا وتكرارا حال أن المـشرع مـحمول على عدم الزّلل، والعصمة من الإجترار ؟ ألا يفضي اشتراط إثبات البينة لوجود زواج إلى اضمحلال الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب ؟.
إن هذه التساؤلات وغيرها تتيح لنا القول مجدّدا إنّ الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية قد وضع وسائل ثلاث مستقلة عن بعضها البعض يمكن أن تعتمد في إثبات النّسب، ومن ضمنها الزواج الذي لا يعدو كونّه إحدى وسائل إثبات النّسب مثله مثل الإقرار والبيّنة.
ومن ثمة فإنه في وسعنا القول أنه من الناحية النّظريّة لاشيْ يمنع من إثبات نسب الطّفل الطّبيعي بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر.
وإجمالا، فإن الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية قد عدّد من وسائل إثبات النسب بما يترك مجالا للطفل المولود خارج إطار الزواج من الظهور بمظهر الابن الشرعيّ. إلا أن ما نوّد أن نختم به في هذا الخصوص هو القول إن الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية ربّما يكون قد وضع ترتيبا تفاضليا لوسائل إثبات النسب. بحيث يرد الفراش في مقدمتها ثم يليه الإقرار فشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر. وهذا الترتيب لا يؤثر بحال على مسألة استقلالية كل وسيلة عن الأخرى وكفايتها بذاتها لإثبات النسب.
هذا، و نشير إلى أن الزواج الذي أورده الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية في مقدمة وسائل إثبات النسب يتّسم بمفهومه الواسع ضرورة أن المشرع التونسي قد استعمل عبارة الفراش التي تشمل صورا شتى من الزواج ، و هذه نافذة أخرى يمكن للطفل الطبيعي أن ينفذ من خلالها إلى زمرة الأطفال الشرعيين.
الفقرة : (2) المفهوم الواسع للزواج :
استعمل المشرع التونسي صلب الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية عبارة الفراش مثلما سبق ذكره ، و هي عبارة مقتبسة من الفقه الإسلامي تعني العلاقة الشرعية .و الفراش أكثر شمـولية من الزواج. و هو لا يخلو من توسّع إذ يطلق على الزواج الصحيح و الزواج الباطل و على العلاقات الجنسية مع ما
تملك اليمين ) الجواري( و كذلك العلاقات الجنسية الواقعة خطأ ،و هو ما يعبر عنه بالدخول بشبهة *.
فكلمة "الفراش" في مفهومها الفقهي أوسع من عبارة "الزواج". و لقد حافظ المشرع التونسي عليها و استعملها حال أنه كان في وسعه أن يستعمل بدلا عنها عبارة الزواج ، كما فعل في عدد من فصول مجلة الأحوال الشخصية **.
إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن مدلول الفراش في الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية يختلف عن مدلوله الذي أجمع عليه الفقهاء المسلمون .
و مرد هذا الاختلاف أنه لم يعد هناك مجال للحديث عن الزواج بما ملكت اليمين بعد أن تم إلغاء الرق بتونس منذ أواسط القرن 19 ، و هو ما حصل أيضا في معظم البلاد.
و فضلا عن ذلك فان الدخول بشبهة أضحى في أيّامنا هذه ضربا من ضروب الخيال، فأنّى لنا أن نتحدث اليوم عن دخول بشبهة ، أي ناتج عن غلط في شخص المدخول بها ، حال أنّ الاحتكاك و الاختلاط بين الجنسين أضحى السّمة البارزة لمجتمعاتنا بعد أن انعتقت المرأة من كل قيودها وأضحت لا توافق على زوج المستقبل إلا بعد أن تتعرف إليه المعرفة التامة المانعة لكل جهالة .

*- يراجع مفال الأستاذ الساسي بن حليمة بعنوان : La filiation naturelle en droit Tunisien المشار اليه سابقا ص20.
** أنظر الفصول 3 و 4 و 5 و 6 و 87 من م أ ش.
و هكذا، فإن عبارة الفراش الواردة بالفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية لم تعد تشمل من الناحية العملية إلاّ الزواج الصحيح و الزواج الباطل .
فأما الزواج الصحيح، فهو الزواج الذي استجمع كل شروط صحّته الأصلية و الشكلية كيفما نظمتها مجلة الأحوال الشخصية و بعض القوانين المتممة لها* .
و أما الزواج الباطل ، فهو الزواج التي تخّلفت فيه إحدى شروط صحته الأصلية أو الشكلية . فيكون الزواج باطلا في صورتين، أولهما :صورة وجود خلل يتعلق بركن من أركانه الأصلية كوجود شرط يتنافى مع جوهر العقد أو تخلف شرط جوهري فيه ، و في هذه الصورة الآنف ذكرها ينال البطلان أو الفساد الزواج فلا ينتج مبدئيا أي أثر إن لم يكن هناك دخول، أمّا إذ حصل الدخول فإنه ينتج جملة من الآثار، من ضمنها إثبات النسب و ذلك عملا بأحكام الفصل 22 من مجلة الأحوال الشخصية .
و أما الصورة الثانية لبطلان الزواج ، فهي صورة إبرامه خلافا للصيغ القانونية التي اقتضاها الفصل الرابع من مجلة الأحوال الشخصية ، و التي تتلخّص في ضرورة إفراغ الزواج في شكل حجة رسمية يتلقاها ضابط الحالة المدنية أو يحررها عدلي إشهاد . فإذا لم يبرم الزواج مع احترام الصيغ المذكورة آنفا ، ناله البطلان و ذلك عملا بأحكام الفصول 31 و 36 و 36 مكرر من قانون غرت أوت 1957 المنظم للحالة المدنية ، علما و أن هذا الزواج ينتج بدوره آثارا من بينها ثبوت النسب.
ومحصّلة القول، فإن عبارة الفراش تمثل الزواج الصحيح، والزواج الباطل، كما أنه لا مانع من أن تشمل

*- انظر الفصول 3 و 4 و 5 و 14 و 15 و 16 و 17 و 18 و 19 و 20 من م أ ش ، و كذلك القانون عدد 3 لسنة 1957 و خاصة الفصول 31 و 36 و 36 مكرر .
الدّخول بشبهة وإن كان مثل هذا الدخول مستبعدا كما تقدم شرحه. فهي عبارة واسعة واتساعها هذا من شأنه أن يمكّن الطّفل الطبيعي من أن يظهر بمظهر الابن الشرعي وذلك بتمسّك من يمثله ، أو بتمسّكه إن كان مدركا سنّ الرّشد بوجود زواج باطل بين والدته ووالده البيولوجي ، لأن هذا الزواج مثبت للنسب عملا بالفصل 22 من مجلة الأحوال الشخصية والفصل 36 مكرر من قانون الحالة المدنية المؤرخ في غرة أوت 1957.
علما و أنه لا يجوز التمسك بوجود وعد بالزواج، أو بقيام علاقة خنائية، أو بحصول مواقعة لقاصرة، بهدف التوصل لإثبات النسب لأن الحالات السابق الإلماع إليها لا يمكن أن تمثل بأية حال زواجا باطلا. نقول ذلك حال علمنا أن عبارة الفراش تظل عبارة واسعة، وهو ما قد يسمح للطفل الطبيعي من أن يكتسب صفة الابن الشرعي بالتمسك بفراش قد لا يكون موجودا فعلا،ويؤكد بالتالي الرأي القائل بجواز إثبات نسب الطفل المولود خارج إطار الزواج لا سيما في صورة وجود مرونة وتفهّم من قبل المحكمة التي تبت في قضية النسب نفيا أو إثباتا.
فالطّفل الطّبيعي قد حظي بشيء من العناية من قبل المشرع التونسي ولو بطريقة ضمنية وغير مكشوفة تتلخص كما سبق عرضه في تعدّد وسائل إثبات النسّب ، و تبني مفهوم واسع للزواج، وكذلك تبني مفهوم واسع لأدنى وأقصى مدّة الحمل.
الفقرة (3) : المفهوم الواسع لأدنى وأقصى مدّة الحمل*
إنّ إثبات النّسب بشكل مباشر أمر غير هيّن، ومن ثمة كان اللجوء إلى قرائن لإثباته. وفي مقدّمة

* حول هذه المسألة انظر أطروحة الأستاذ ساسي بن حليمة : البنوة الشرعية في القانون التونسي. ص22 و ما بعدها.
هذه القرائن وأقواها ترد قرينة الفراش التي تعني أن كل طفل تلده امرأة متزوجة بعد انقضاء ستة أشهر من زواجها، أو قبل مرور سنة عن انفصام الرّابطة الزوجية، محمول على أنّه مولود من صلب زوج المرأة المذكورة.
هذا، والملاحظ أنّ قرينة الفراش ليست بالقرينة المطلقة، إذ أنها تبقى قابلة للدّحض ضرورة أنّ القيام بقضية لنفي نسّب الطفل المولود لفراش يظل جائزا للزّوج إذا اعتراه شك قوّي في أنّ الطّفل ليس من صلبه وأنّ زوجته قد أتت به من علاقة سفاح. وقد كرّس هذا الجواز صلب مجلة الأحوال الشخصية بشكل لا لبس فيه*.
وقرينة الفراش التي نحن بصدد الحديث عنها قرينة أقرّها الفصل 71 من مجلة الأحوال الشخصية والذي تضمن أنه : "إذا ولدت الزوجة لتمام ستة أشهر فأكثر من حين عقد الزواج سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا يثبت نسّب المولود من الزوج " فالفصل 71 المتحدث عنه يشير إلى مدّة الحمل وهي تتراوح بين الأدنى والأقصى.
فأما أدنى مدّة الحمل فقد حدّدها المشرع بستة أشهر يقع احتسابها من حين عقد الزواج سواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا، ومن الجليّ أنّ هذه المدّة لا تتماشى مع المدّة الطّبيعية للحمل الذي يستمرّ مبدئيا تسعة أشهر أو ما يزيد عن ذلك أحيانا. وهو ما يثير السؤال حول دواعي تحديد أدنى مدّة الحمل بستة أشهر لا أكثر ولا أقل؟ للإجابة، نقول إنّ المشرّع التّونسي قد استلهم الحلّ بالنسبة إلى هذه المسألة من قواعد الفقه الإسلامي. فقد أجمع الفقهاء المسلمون على تحديد أدنى مدّة الحمل بستة أشهر وذلك انطلاقا

*- انظر الفصول 69 و 72 و 75 من م.أ.ش.
من آيتين قرآنيتين جاء في أولاهما قوله تعالى : "ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"*، في حين تضّمنت الثانية قوله عزّ وجلّ : "ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين"**. فإذا كانت مدّة الحمل والرّضاع ثلاثين شهرا، ومدّة الرّضاع عامين فإن مدّة الحمل لوحدها هي ستة أشهر نتوصل إليها بخصم العامين من الثلاثين شهرا.
علما و أنّه خلافا لأدنى مدّة الحمل التي حصل حولها الإجماع بين مختلف المذاهب الفقهية، فإن أقصى مدة الحمل كانت محل خلاف بين المذاهب المذكورة، ذلك أنه لم يرد نصّ صريح من القرآن أو السنة الصّحيحة بشأنها ممّا حمل الفقهاء على الاختلاف فيها. فقدّرها المالكيّة والشافعية والحنابلة بأربعة أعوام والحنفيّة بعامين والظاهريّة وبعض الشّيعة بتسعة أشهر والبعض الآخر من هؤلاء قدّرها بسنة***. ومن الواضح أنّ أقصى مدّة الحمل، على معنى أغلب المذاهب، تتّسم بالشّطط والمبالغة فضلا عن عدم تماشيها مع الواقع البيولوجي. لذلك اختار المشرّعون في معظم البلاد الإسلاميّة أن تكون أقصى مدّة الحمل عاما يحتسب انطلاقا من تاريخ انفصام الرابطة الزوجية بطلاق أو بطلان أو موت. وهذا الحلّ تبناه المشرع التونسي صلب الفصلين 35 و 69 من مجلة الأحوال الشخصية اللّذين وضعا قرينة على أن كل طفل يولد في بحر السّنة التي تلي انفصام الزّواج يكون ثمرة لذلك الزواج المنفصم. و بالتّالي تقع نسبة الطفل لمفارق والدته.

*- انظر سورة الأحقاف، الآية 15.
**- انظر سورة لقمان ، الآية 14.
***- انظر بخصوص هذه المسألة "أصول الإثبات في الفقه الجعفري".
وللإشارة، فإنّ نقاشا فقهيّا قد أثير بشأن الطّبيعة القانونية للقرينة التي تقدّم الحديث عنها، أهي قرينة بسيطة أم مطلقة . فإذا قلنا إن قرينة أقصى مدة الحمل قرينة بسيطة، فذلك معناه أنّها قابلة للدّحض. فيكون في وسع من له صفة ومصلحة أن يقيم الدّليل علي أنّ الطّفل لم يبق في بطن أمه مدّة عام كامل، وهو أمر ممكن وهين من الناحية العلميّة بالنظر لما بلغه العلم من تقدّم. غير أنّ العسير هو التعلّل بأن الطفل قد بقي في بطن أمّه مدة تفوق العام لأن هذا الزعم يتنافى مع الواقع البيولوجي والمعطيات الطّبية والعلميّة.
أمّا إذا قلنا إنّ القرينة موضوع حديثنا قرينة مطلقة، فإنّ ذلك يعني أنّ كلّ ولد ولد في بحر السّنة الموالية لانفصـام الرّابطة الزوجية هو ابن لمفارق والدته. ولا يمكن لهذا الأخير أو لمن يقوم مقامه أن يأمل في نفي نسبه عن الوالد المتحّمل بقرينة الفراش.
وعموما، فإن قرينة أقصى مدّة الحمل هي قرينة بسيطة. وهو قول ينسجم مع ما سار عليه عمل محاكمنا في تعامله مع قضايا نفي النسب من اعتماد للوسائل العلمية المستحدثة. فإذا كان من شأن الاختبار الطبي المتعلق بمدة الحمل أن يثبت أن الطفل قد بقي في بطن والدته مدّة تقل عن العام فإننا لا نخال محاكمنا ستتصدى لهذا الاختبار وتقضي بخلافه.
و سواء أتعلق الأمر بأدنى مدّة الحمل أم بأقصاها، فإن قرينة الفراش التي وضعها الفصل 71 من مجلة الأحوال الشخصية كما سبق ذكره من شأنها أن تتيح للطفل الطّبيعي إمكانية التمتّع بوضعية الابن الشرعي. ذلك أن الطفل المولود لتمام ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج هو طفل يفترض أنّ أمه قد حملت به قبل إبرام عقد الزواج. ومع ذلك فإن المشرع يقر بحق هذا الطفل في النسب. كذلك، فإن الطفل المولود في أثناء العام الذي يعقب انفصام الرابطة الزوجية بين قرينين، قد يكون طفلا غير شرعي لاسيما إذا كان الانفصام ناتجا عن طلاق تسبقه عادة فترة قد تطول أو تقصر تتعطل أثناءها المعاشرة بين الزوجين نتيجة لوجود الزوجة خارج محلّ الزوجية. لكن ورغم رجحان احتمال عدم شرعية الطفل، فإن المشرع التونسي قد اعترف له بالحق في النسب ولو كانت ولادته في بحر عام من انفصام الزواج بين والديه المفترضين.
وصفوة القول، فإن تعدد وسائل إثبات النسب، وكذلك تبني مفهوم واسع للزواج ولأدنى وأقصى مدّة الحمل تمثل مزايا تشريعية منحها المشرع التونسي للطفل الطبيعي ليتمكن من خلالها من التمتع بوضعية الأبناء الشرعيين. فالتشريع التونسي، والحال ما تقدم، لا يتحامل على الطفل الطبيعي ولا يقصيه. بل على العكس من ذلك فإنه يترك له باب الشرعية مفتوحا ويغض عنه الطّرف إن رام التسلّل إلى زمرة الأبناء الشرعيين. وهو ما سمح لشق من فقه قضائنا بإبداء مرونة إزاء الطفل الطبيعي وتمكينه من الظهور بمظهر الطفل الشرعي.
المبحث (2 ) : الأساس القضائي لإثبات نسب الطفل الطّبيعيّ
أمام تغاضي المشرع التونسي عن تنظيم وضعيّة الأبناء الطبيعيين والاعتراف بهم اعترافا صريحا أقدم شق من فقه قضائنا على استنباط حلول لهؤلاء الأطفال تكفيهم مؤونة الإحساس بالانبتات، وتحمّل آباءهم مسؤوليات أفعالهم. فلعب فقه القضاء بذلك دوره الخلاّق الذي له بل وعليه أن يلعبه في صورة وجود فراغ تشريعي وكان ذلك عبر السّعي إلى إضفاء الصبغة الشرعية على علاقات غير شرعية بأصلها (الفقرة 1) أو بإبداء مرونة إزاء اعتماد الشهادة والإقرار في إثبات النسب (الفقرة (2) ).



الفقرة الأولى : فقه القضاء التونسي و إضفاء الشرعية على علاقات
غير شرعية بأصلها .
حرص فقه القضاء التونسي على إضفاء الشرعية على علاقات غير شرعية بأصلها فاعتبر الوعد بالزواج زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصيغ القانونية مثبتا للنسب ( أ (كما توسع في مفهوم المواقعة ( ب ( حثا للمتهم في جريمة المواقعة على الزواج بالمجني عليها ، و هو ما يكفل لثمرة تلك العلاقة الحق في الانتساب لمن واقع والدته .
-أ-فقه القضاء التونسي واعتبار الوعد بالزواج زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصّيغ القانونية :
أمام عدم اعتراف التشريع التونسي اعترافا صريحا بالطفل الطبيعي ، وربما بدافع الرأفة والإشفاق على الطفل المذكور ، ذهب شق من فقه القضاء التونسي إلى استنباط حلّ أو لنقل حيلة شرعيّة إن جازت العبارة حتى يمكّن أبناء غير شرعيين من الظهور بمظهر الأبناء الشرعيين، فاعتبر أنه إذا نشأت علاقة جنسية بين رجل وامرأة نتيجة لوجود وعد بالزواج فإن هذا الوعد بالزواج يعد زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصيغ القانونية على معنى الفصلين 36 و 36 مكرر من القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في أول أوت 1957 المتعلق بالحالة المدنية.
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 36 من قانون الحالة المدنية قد رتب جزاء البطلان على الزواج المبرم خلافا لما اقتضاه الفصل 31 من نفس القانون، من ضرورة تحرير العقد من جهات معينة وإفراغه في شكل حجّة رسمية. فإذا بطل الزواج للسبب الذي كنا بصدد الحديث عنه، كان من آثار هذا البطلان ثبوت النسب طبقا لما اقتضاه الفصل 36 مكرر من نفس القانون.
وهكذا فقد ذهبت بعض المحاكم على اختلاف درجاتها إلى تطبيق مفهوم الزواج الباطل على وقائع لا تعدو كونها علاقة سفاح بنيت على تغرير ووعد زائف بالزواج، ولنا في بعض الأحكام والقرارات القضائية التي نسوقها لاحقا ما يؤكد هذه المقولة.
فقد قضت محكمة الاستئناف بصفاقس بإثبات نسب طفل رغم عدم وجود عقد زواج محرّر طبقا للصيغ الشكلية المستوجبة، فتمسّك الوالد المزعوم بأن العلاقة التي جمعته بوالدة الطفل كانت علاقة سفاح. بينما تمسكت الوالدة المذكورة بأنّها قد مكّنته من نفسها بناء على وعده لها بالزواج. وطعن الرجل بالتعقيب في القرار الاستئنافي ناسبا له الخطأ في تطبيق الفصل 21 من مجلة الأحوال الشخصية بمقولة أن القرار المذكور انبنى على أن الاتصال الجنسي يعتبر زواجا فاسدا ويترتب عليه إلحاق النسب ، في حين أن الاتصال قد تمّ قبل وقوع الإشهاد فيعتبر زنا، ولا يترتب عليه إلحاق النسب . لكن محكمة التعقيب قضت برفض مطلب التعقيب و اعتبرت أنّ الاتصال الجنسي قد تم إثر تراضي الطرفين على الزواج. وهو ما من شأنه أن يقوم مقام الزواج الباطل على معنى الفصل 36 من قانون الحالة المدنية. وكان ذلك في قرارها المؤرخ في 14 نوفمبر 1972 تحت عدد 7900*، والذي جاء فيه بالخصوص : "حيث أن الطاعن يحاول أن يجعل علاقته بالمعقب عليها أثناء الحمل والوضع هي علاقة خنائية لا تجبره على قبول نسب مولودتها طالما لم يكن مرتبطا معها بعقد شرعي كما يجب. وحيث أثبت القرار أن اتصال الطاعن جنسيا بالمعقب عليها وازدياد المولودة الناتجة من ذلك الاتصال، كلّ ذلك وقع بعد الاتفاق بين الطرفين والتراضي


*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1972،القسم المدني، ص 55.
على الزواج وقبل تحرير الحجة الرسميّة بالصفة القانونية. وحيث أن الزواج ينعقد فعلا بمجرد رضى الزوجين حسب أحكام الفقرة الأولى من الفصل 3 من مجلة الأحوال الشخصية أما تحرير الحجة الرسمية ...فإنّما هو شرط لصحّة عقد الزّواج. وحيث أن عدم إتمام ذلك الشرط يجعل الزواج غير صحيح. لكن من جهة أخرى يترتب عنه ثبوت النسب حسب أحكام الفصل 36 مكرّر من القانون عدد 3 لعام 1957 المؤرخ في غرة أوت 1957."
هذا، ونشير إلى أنه كان يوجد شك في القضية التي سبق الالماع إليها بخصوص طبيعة العلاقة الرابطة بين والد الطفل المزعوم ووالدته، والتي كانت تتراوح بين الوعد بالزواج والمواعدة به أي الخطبة، وبين تبادل الرضا على الزواج.
إلا أن محكمة التعقيب لم تتصدّ لهذه المسألة و اكتفت بالإشارة إلى أنّ الامر يخصّ النظر في الأصل ويخضع تبعا لذلك إلى السلطة التقديرية المطلقة لمحكمة الموضوع ما دامت قد علّلت رأيها تعليلا سليما.
وفضلا عن القرار التعقيبي المؤرخ في 14 نوفمبر 1972، فقد سبق لمحكمة التعقيب أن كيّفت الوعد بالزواج، بالزواج الباطل لإبرامه خلافا للصيغ القانونية في قرار تعقيبي مدني صادر في 2 أفريل 1968 تحت عدد 5350 حيث كانت الوقائع تفيد أن رجلا وامرأة تعارفا في أكتوبر 1963 ، فأعلن الأول رغبته في التزوّج بالثانية . وبعد الاستشارة اتفقا على التزوج ببعضهما ، و اندفعا في هذا السبيل كخطيبين ، وأصبحا يتصلان ببعضهما علانية ويتزاوران ويختليان بمحلّيهما على هذا الأساس ، وطالت المخالطة بينهما مدّة تزيد على العشرة أشهر ، إلى أن وضعت المرأة بنتا ورسمتها بدفاتر الحالة المدنية باسم من اتفقت معه على الزواج. وبعد أيام من الوضع حرّر عقد الزواج بينهما بالصورة الرسمية المطلوبة. إلا أن الزوج سرعان ما تنكّر لزوجته فطلّقها ، وتنكر للبنت فقام بقضية في نفي نسبها، لكن محكمة التعقيب اعتبرت أنّ البنت، ولئن ولدت قبل إبرام عقد الزواج بصورة رسمية، إلا أنها قد ولدت من علاقة شرعية تتمثل في زواج مبرم بصورة غير رسمية بين والديها ، ضرورة أن تبادل الرضا على الزواج يقوم مقام الزواج الباطل. تقول محكمة التعقيب في قرارها الذي كنا بصدد الحديث عنه : "وحيث أن القرار (أي قرار محكمة الاستئناف) لما فهم من هذه الوقائع أن هناك علاقة زوجية معروفة وأن الاتصال الجنسي بين الطرفين خلالها قد برهن بصورة فعلية على وقوع التراضي بينهما على الزواج ببعضهما، وأن المعقب ضدّها لم تمكّنه من نفسها إلاّ على أساس هذا التراضي واعتبر أن هناك انعقادا للعلاقة الزوجية (التي لم تتم بصورة صحيحة قانونا)، لا يعدّ مخطئا قانونا في هذا الفهم ، ما دام أن الزواج ينعقد برضاء الطرفين قانونا ، وما دام أن القانون قد رتب عن الدخول الناتج عن مثل هذا الزواج ثبوت النسب حسب الفصل 36 مكرر من قانون الحالة المدنية…. "
فالواضح ممّا تقدم عرضه، أن محكمة التعقيب قد اعتبرت أنّ حصول التراضي على الزّواج يقوم مقام الزواج الباطل لإبرامه خلافا للصّيغ القانونية . فإن قال قائل هل إن هذا الرأي وجيه ؟ كانت الإجابة بالنفي أقرب إلى المنطق القانوني السليم ذلك أن الزّواج الباطل على معنى أحكام الفصل 36 من قانون الحالة المدنية هو زواج بأتم معنى الكلمة، ولو أنه لم يستوف شرطا من شروط صحته ، وهو يختلف بالتالي عن مجرّد الوعد بالزواج والمواعدة به الذي لا يعتبر زواجا ولا يقضى به* ولو حصل على إثره اتصال جنسي ومعاشرة بين المتواعدين.
والملاحظ أن محاكم الأصل بدورها قد انتحت نفس المنحى الذي سلكته محكمة التعقيب في فترة الستينات وبداية السبعينات ، فاعتبرت الوعد بالزواج زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصيغ القانونية ، من

* أنظر الفصل الأول من م ا ش.
ذلك نذكر الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بسوسة بتاريخ 04 ماي 1970 تحت عدد 15249* وكذلك القرار الاستئنافي عدد 28744 الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس في 19 مارس 1969**.
فالمستفاد ممّا سبق عرضه، أن فقه القضاء التونسي قد سعى إلى إضفاء الشرعية على علاقات غير شرعية بأصلها ، فجعل الوعد بالزواج زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصيغ القانونية، وكأنّنا به يريد أن يخلق من عدم وضعية قانونية للطفل الطبيعي في ظل عدم اكتراث مشرعنا لهذه المسألة الذي امتد إلى أواخر سنة 1998.
وتماديا في نفس التوجه الفقه قضائي، لكن على الصّعيد الجزائي هذه المرّة ، ذهبت بعض محاكمنا إلى التوسّع في مفهوم المواقعة وصولا إلى إضفاء الشرعية على ثمرة علاقة غير شرعية فكيف تمّ ذلك وبأية طريقة؟
ـ ب ـ فقه القضاء و التوسّع في مفهوم المواقعة :
إن ما نعنيه بعبارة المواقعة ليس المواقعة في مفهومها الواسع الذي ينسحب على جريمة الاغتصاب بوصفها مواقعة ينعدم فيها الرضاء تماما ، و إنما هي مواقعة أنثى برضاها سنّها دون العشرين و هي الجريمة المنصوص عليها و على عقابها صلب الفصل 227 مكرر من المجلة الجنائية .
و علاقة المواقعة بموضوع الطفل الطبيعي علاقة وطيدة ضرورة أنّ المواقعة الرضائية قد تفضي إلى

* أنظر م ق ت لسنة 1971 ص 975
** أنظر مؤلف السيد علي حسين الفطناسي : دراسات في النسب ملحق عدد3 ص175.
حمل ، فوضع ، فسؤال عن مآل الطفل: هل ننسبه إلى من واقع والدته و أدين من أجل ذلك ؟ أم نكتفي
بإدانة المواقع جزائيا و نحرّره من كل مسؤولية إزاء الطفل و هو ثمرة الفعلة و نتاجها ؟
لا شكّ أن نسبة الطفل إلى من واقع والدته القاصرة برضاها أمرا غير مقبول لأنه يتجافى مع القواعد الخاصة بالنسب و في مقدمتها الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية الذي لم يتضمن البتة أن النسب يثبت بالمواقعة و لو كانت مواقعة لأنثى برضاها سنها يفوق السن المشترطة في الزواج أي سبعة عشرة عاما كاملة .
كذلك فإنّ تحرير من تمت إدانته جزائيا من أجل مواقعة أنثى برضاها سنّها دون العشرين ، من كل مسؤولية إزاء الطفل الذي قد يتولد عن تلك المواقعة ، علامة على عدم الاكتراث لأمر الطفل المتحدث عنه.
فإذا كانت نسبة الطفل إلى من واقع والدته و أدين من أجل ذلك أمرا مخالفا لمقتضيات الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية، و إذا كان تحرير الوالد البيولوجي من كل مسؤولية مؤشرا على عدم الاكتراث و اللاّمبالاة لوضع بريء مؤاخذ بجريرة غيره، فبأيّ طريقة تصرفت محاكمنا إزاء هذا الوضع لإنصاف الطفل المولود في سفاح و التعبير عن الانشغال لأمره و الاهتمام بحاله؟
لقد تمثلت تلك الطريقة في التوسع في مفهوم المواقعة بشكلين اثنين .
فأما الشكل الأول من التوسع، فيتلخص في الانطلاق من الحكم القاضي بالإدانة من أجل مواقعة أنثى برضاها سنها دون العشرين ، ثم التأسيس على الحكم المذكور و الاستناد إليه لإثبات نسب الطفل الذي أثمرته المواقعة ، لكن دون الاصداح بذلك و الكشف عنه لما فيه من تعارض مع قواعد إثبات النسب المعتمدة قانونا .
و في الواقع، فان هذه الصورة لم تبق مجرد افتراض، بل تجسمت من خلال بعض الأحكام و القرارات التي صدرت عن محاكمنا على اختلاف درجاتها ، و التي نسوق من بينها على سبيل الاستدلال قرار محكمة الاستئناف بتونس عدد 18744 المؤرخ في 19 مارس 1969*، الذي صدر عن المحكمة الآنف ذكرها بوصفها محكمة إحالة للمرة الثانية. و قد تلخصت وقائع القضية في أن فتاة قامت بدعوى لدى المحكمة الابتدائية بسوسة للمطالبة بإثبات نسب ابنها ، و أدلت لتأييد دعواها بحكم جزائي قضى على المدعي عليه بالسجن من أجل مواقعتها على معنى الفصل 227 مكرر من المجلة الجنائية. و بنتيجة تحليل دموي تثبت وحدة فصيلة الدم بين الطفل المراد إثبات نسبه و المدعى عليه ، فقضت محكمة البداية لفائدة
الدعوى ، إلا أنّ محكمة الاستئناف بسوسة نقضت الحكم الابتدائي معتبرة أن الوسيلتين اللتين استندت إليهما المدعية لتأييد دعواها غير كافيتين لإثبات النسب .
فطعنت والدة الطفل بالتعقيب في القرار الاستئنافي ، فأصدرت محكمة التعقيب قرارا**نقضت فيه قرار محكمة الاستئناف بسوسة ، بمقولة أنه كان ضعيف التعليل ضرورة أن المحكمة لم تعلل قضاءها بصورة

*- أنظر مجلة القضاء و التشريع لسنة 1971 ص 89.
**- انظر القرارالتعقيبي عـ5931ـدد المؤرخ في 21 اكتوبر 1968 م ق ت1969ص493.

مقنعة بخصوص المستندين اللذين تمسكت بهما المدعية أي الحكم الجناحي القاضي بإدانة المدعى عليه، و التحليل الدموي المثبت لانتماء الطفل و الوالد المزعوم لنفس فصيلة الدم، حال أن هاتين الوسيلتين جوهريتين في الاهتداء إلى وجه الفصل في القضية .وأغلب الظن أن قرار النقض الذي اتخذته محكمة التعقيب، كان يخفي رغبتها وحرصها على إثبات نسب الطفل ولو أنّها لم تجسر على الإفصاح عن تلك الرغبة. وذلك الحرص لإدراكها أن في ذلك مخالفة وإخلالا بأحكام الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية المحدّد لوسائل إثبات النسب. فهل استجابت محكمة الإحالة لتلك الرغبة و أوفت بما كان مطلوبا منها ؟ الواضح أن محكمة الاستئناف بتونس قد فهمت فحوى الرسالة الموجهة إليها و التي قد تكون وراء اختيار محكمة التعقيب لها بدلا عن محكمة الاستئناف بسوسة مثلما يقتضيه منطق الأشياء . فانعكس فهمها ،أو لنقل تفهمها على طبيعة الحكم الذي أصدرته فصلا في الدعوى، و الذي قضت بموجبه بإثبات نسب الطفل تجاه من واقع والدته و أدين من أجل ذلك جزائيا لكن ليس باعتماد الحكم الجزائي المثبت للمواقعة و لا التحليل الدموي المؤكد لتطابق فصيلتي دم الطفل و مواقع والدته ، و إنما باستنباط حلّ طريف و غير منتظر تمثل في القول بوجود زواج أبرم بين الطرفين على خلاف الصيغ القانونية و هو زواج مثبت للنسب عملا بأحكام الفصل 36 مكرر من القانون عدد 3 لسنة 1957.
و رغم بعده الإنساني النبيل، فإنّ قرار محكمة الاستئناف بتونس السابق الإلماع إليه لم يسلم من نقد بناء فقد رأى فيه أحد الفقهاء* تناقضا صريحا بين القضاء الجزائي و القضاء المدني ضرورة أن القضاء الجزائي قد اعتبر والد الطفل مجرما بوصفه مواقعا لقاصرة أي أن علاقته بها كانت علاقة خنائية، في حين أن

*- أنظر اطروحة الأستاذ ساسي بن حليمة ص 72 و ما بعدها ، دكتوراه 1976.
القضاء المدني يعتبر الشخص نفسه زوجا قد أبرم علاقة زوجية مع والدة الطفل و لو أنها كانت مختلة الصحة من جهة الشكل .
و هكذا، اعتبر والد الطفل مواقعا لقاصرة من جهة ، و زوجا لها من جهة أخرى ، و هي نتيجة يأباها المنطق القانوني السليم ، و لو أن السبب في ذلك تمثل في غياب أي تنظيم لوضعية قانونية للأبناء الطبيعيين أثناء صدور القرار السابق التعريج عليه .
فالواضح ممّا أنف عرضه أنّ فقه القضاء التونسي قد توسّع في مفهوم المواقعة، إن لم يكن قد تعسّف عليه، وصولا إلى إثبات نسب الطفل الطبيعي . إلا أن توسّعه لم يقف عند هذا الحدّ بل اتّخذ شكلا آخر مختلفا عن سابقه ولو أنّ الغاية ظلّت واحدة. وهذا الشكل الثاني للتوسّع في مفهوم المواقعة تم بالتخلي عن مفهومها التقليدي الذي أرسته محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في قرارها عدد 6417 المؤرخ في 16 جوان 1969* حيث اشترطت الوطء من المكان الطبيعي للأنثى بالإيلاج التام ، حتّى يتوفر الركن المادي للجريمة ، وتبني مفهوم جديد مخالف لما استقرت عليه المحاكم على امتداد ما يقارب الثلاثة عقود.
وهذا المفهوم الجديد للمواقعة ظهرت بوادره بصدور القرار التعقيبي الجزائي عدد 50370 المؤرخ في 26 جوان 1996** والذي تضمن بالخصوص "…..إن عملية دلك ذكر الرجل بمستوى فرج الأنثى

*- أنظر م ق ت عدد 2 فيفري 1970 ص 61 .
*- أنظر تعليق الأستاذ عماد فرحات على القرار المذكور م ق ت ، ع4 أفريل 1999 ص 117.
يترتب عنه إيلاج ولو جزئي وتحصل معه جريمة المواقعة المنصوص عليها بالفصل 227 مكرر من ق.ج متى نتج عن ذلك حمل …." وفي موضع آخر تستشهد المحكمة بما كتبه أحد الشراح* بشأن الجانب الاجتماعي لجريمة المواقعة ، فتقول نقلا عنه "إنّ فقه القضاء المستوجب للإيلاج في المواقعة مهما كان الحال وحتى في صورة الوطء السطحي الناتج عنه حمل يطرح التساؤل الجوهري حول الغاية من تجريم عملية مواقعة القاصرة، فإن كانت الغاية هي معالجة وضعية اجتماعية صعبة، وضعت الفتاة نفسها فيها، فمن باب أولى ان يقع التشجيع على التزوج بها في صورة حملها نتيجة الإتيان السطحي، ولو بقيت بكارتها سليمة لأنها في حاجة إلى كتم الفضيحة وإضفاء النسب الشرعي على المولود، وإن كانت الغاية تتمثل في إصلاح آثار المواقعة التامة وحدها ، فإننا لا نخال المشرع التونسي حريصا إلى هذه الدرجة على غشاوة البكارة ومهتما بمصيرها أكثر من اهتمامه بطفل سوف يولد طبيعيا ويعيش حياة اجتماعية صعبة".
فالواضح أن محكمة التعقيب تشاطر الفقيه المذكور أعلاه انشغاله بشأن الطفل المتولد عن مواقعة رضائية لقاصرة ، وربما كان لسان حالها يقول إن اعتبار الجريمة حاصلة بمجرّد الوطء السّطحي من شأنه أن يضع المواقع أمام خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يتحمّل وطأة العقاب الذي ينتظره، وإمّا أن يقبل الزواج بالمجني عليها. ولا شك أن هذا الزواج سيعفيه من العقاب إلا أنّه سيجعله متحمّلا بقرينة الفراش المنصوص عليها بالفصل 71 من مجلة الأحوال الشخصية .
وهكذا فإنه إذا ولدت الفتاة لتمام الستة أشهر فأكثر من حين عقد الزواج فإن الولد ينسب للزّوج

*-أنظر مقال السيد محمد الحبيب الشريف :زواج الجاني بالمجني عليها.م ق ت عدد2لسنة 1995

ولا يبقى أمام هذا الأخير إلا القيام بقضية لنفي نسب الطّفل عنه. وقد يدلي لتأييد دعواه بما يفيد أن العلوق قد تمّ في ظل علاقة خنائية بحتة ، إلا أنّ ذلك لن يجديه نفعا ، ضرورة أن قرينة الفراش تردّ ادّعاءه.
ولكن الإشكال يسترجع حدّته بالنسبة إلى الطفل ووالدته إذا حصلت الولادة قبل ستة أشهر من حين عقد الزواج، لأن قرينة الفراش ستضمحل لا محالة ويضمحلّ معها الأمل في إثبات النسب. ولن يبقى للطفل إلا التمسّك بإثبات الأبوة طبقا للقانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 كما سنراه لاحقا، أو التوجه بالسؤال إلى اللّه عزّ وجلّ بأن يهدي والده ويثنيه عن القيام بدعوى نفي النسب إن حدّثته نفسه بذلك.
يتضح ممّا سبق أن فقه القضاء قد حاول إيجاد مخرج للطّفل الطبيعي ، بالتوسّع في مفهوم المواقعة أو ربما بالتعسّف على هذا المفهوم ، فنهض بدوره الخلاق في ظل غياب تنظيم قانوني لوضعية الطفل موضوع حديثنا . وربما انتهى هذا الدور بصدور القانون عدد 75 لسنة 1998 الذي ينتظر أن يكون له تأثير على الاجتهاد السابق لفقه القضاء في تعامله مع جريمة مواقعة أنثي قاصرة برضاها.
وإجمالا، فإن فقه القضاء التونسي قد سعى إلى إظهار الطفل الطبيعي بمظهر الطفل الشرعي بخلع وصف الزواج على أوضاع لا تمثل زواجا في واقع الأمر، وفضلا عن ذلك فقد سعى لتحقيق نفس الغاية بإبداء مرونة في اعتماد الإقرار والبينة كوسيلتين مستقلتين لإثبات النسب.


الفقرة الثانية : فقه القضاء التونسي واعتبار الإقرار والشهادة وسيلتين مستقلتين لإثبات النسب
لاحظنا فيما تقدم أنّ شقا من فقه القضاء قد أبدى رفضه وامتناعه من اعتبار الإقرار وشهادة الشهود وسيلتين مستقلتين لإثبات النسب و اشترط ضمنا أو صراحة ضرورة أن يثبت كلّ من هاتين الوسيلتين وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل. لكنّ جانبا آخر من فقه القضاء رأى خلاف ذلك و أخذ بالشهادة كوسيلة مستقلة لإثبات النسب ) أ ) شأنها في ذلك شأن الإقرار ) ب ) ففتح بذلك الباب أمام إثبات نسب الطفل الطبيعي.
أ- فقه القضاء التونسي و اعتبار الشهادة وسيلة مستقلة لإثبات النّسب :
تعرّض المشرع التونسي صلب الفصل 68 من م.أ.ش إلى الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب ، إلاّ أنه أحجم عن بيان فحواها، فكان ذلك الإحجام سببا في تضارب الآراء بشأن هذه المسألة و تحديدا بشأن ما إذا كان يتعيّن أن تثبت الشهادة وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه أم انه لا حاجة لأن يدلي الشاهدان بوجود تلك العلاقة الشرعية ؟ لقد طرح هذا السؤال على محكمة التعقيب* في قضية تلخصت وقائعها في أن شخصا قام بدعوى في إثبات النّسب مستندا في ذلك إلى شهادة أربعة من الشهود حققوا أنه ابن لفلان، المتوفى، من المرأة فلانة . فقضت محكمة البداية بعدم سماع دعواه.

* أنظر القرار التعقيبي المدني عدد 2000 المؤرخ في 05/12/1963 –قرار غير منشور- اورده الأستاذ المنصف بوقرة في مذكرته المشار اليها آنفا ص 160.
فاستأنف ذلك الحكم ، فقرّرت محكمة الاستئناف نقض الحكم الابتدائي و إثبات نسب المدّعي استنادا إلى ما أفادت به البيّنة.
فتعقّب ورثة الهالك ) أي الأب المزعوم ) القرار الاستئنافي ناسبين إليه خرق أحكام الفصل 68 من م.أ.ش بمقولة أن محكمة الاستئناف قضت بثبوت النسب، في حين أن الزوجية بين من يدّعي المعقب عليه أنهما والداه لم تثبت بصفة شرعية . فكأننا بالطاعنين بالتعقيب و الحال ما تقدم يعتبران الشهادة الوارد بها الفصل 68 من م.أ.ش لا تكفي بذاتها لإثبات النسب بل يجب أن تتضمن ما يفيد وجود زواج بين والدي الشخص المراد إثبات نسبه سواء أكان الزواج المذكور صحيحا أم باطلا.
غير أن محكمة التعقيب لم تجار المتعقّبين فيما ذهبوا إليه من فهم لفحوى الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب و ارتأت أن الشهادة وسيلة مستقلّة لإثبات النسب معلّلة هذا بقولها : "حيث يتّضح بمراجعة الفصل 68 من م.أ.ش أن ثبوت النّسب لا يتوقف على ثبوت الزوجية بل اقتضى النص المذكور أنه يثبت بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر.
و حيث استندت محكمة الاستئناف لمّا قضت لصالح الدعوى إلى شهادة أربعة شهود سالمين من القدح حقّقوا أن المعقّب عليه هو ابن لجارهما ... ولد له و لأمّه ...".
فالواضح أن محكمة التعقيب لم تشترط إدلاء الشهود بما يفيد وجود زواج بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه، بل يكفي في نظرها أن يثبت الشاهدان أو الشهود، إن كانوا كثرا، أنّ طفلا ما هو ابن لرجل ما، دون زيادة أو نقصان بخصوص طبيعة العلاقة التي ربطت بين الوالدين المفترضين له .

و قد رأى أحد الشّراح* أن قرار محكمة التعقيب الذي كنا بصدد الحديث عنه قرار بالغ الأهمية إذ يعطي للفقرة الثالثة من الفصل 68 من م.أ.ش حلاّ صريحا و يرى أنه لا لزوم لإثبات الزواج لكي يثبت النسب بالبينة و هو مدلول كلمة "أو" الواردة بهذا الفصل . و هكذا ، فإن محكمة التعقيب قد اكتفت بالشهادة لإثبات النسب مع أن هذه الشهادة لم تثبت وجود زواج بين والدي الطفل "الكهل" المدعي في تلك القضية. و لو أنها أفادت أنه ابن للوالد المزعوم من والدته فلانة ... فالشهود لم يكشفوا القناع عن طبيعة العلاقة التي ربطت بين والدي الطفل و لم يذكروا تحديدا أنها كانت علاقة زواج أو علاقة سفاح. فبقي الإشكال قائما حول الموقف الممكن اتخاذه لو كشف الشهود القناع عن وجود معاشرة أو اتّصال جنسي بين الوالدين لا يستند إلى علاقة زواج. لقد أجابت محكمة الاستئناف بتونس عن هذا السؤال في قرارها عــ33341ـــدد المؤرخ في 13 جانفي 1972** في قضية أفادت وقائعها أن شخصا تعرّف على فتاة قاصرة فاستمالها واعد إياها بالزواج إلى أن حصل بينهما الاتصال الجنسي الذي أثمر ولادة طفلة . و عندها تنكّر الشخص إلى والدة الطفلة و نكث عن وعده لها بالزواج. فما كان منها إلاّ أن تولّت إثارة التتبع الجزائي ضدّ مواقعها على أساس الفصل 227 مكرر من م.ج. كما تولّت ترسيم المولودة بدفاتر الحالة المدنيّة باسمه . فما كان منه إلا أن قام بقضية في نفي نسب تلك البنت عنه. فقضت محكمة البداية لصالح دعواه. و لدى الاستئناف وقع نقض الحكم الابتدائي استنادا إلى أنّ ثلاثة من الشهود أفادوا بأنه

*- أنظر مذكرة الأستاذ منصف بوقرة : اثبات نسب ابن الخطيبين في فقه القضاء التونسي ص135.
**- أنظر مؤلف السيد علي حسين الفطناسي :دراسات في النسب ص 73.

حصل بين الطرفين خلوة و اتصال جنسي أفضى إلى الحمل فالوضع. و هذا كفيل وحده بإثبات النسب. و هكذا ، فقد قضت محكمة الاستئناف بتونس بثبوت نسب الطفلة استنادا إلى بيّنة أفادت بوجود خلوة و اتّصال بين والدتها و والدها المزعوم أي بوجود علاقة خنائية لا أكثر و لا أقلّ.
و قد رأى الأستاذ بوقرّة* أن قرار محكمة الاستئناف أتى بحلّ هامّ و جريء في نفس الوقت طالما و أنه يجعل من الشهادة وسيلة في إثبات النسب مستقلّة عن سابقتيها أي الفراش و الإقرار. و لو أنه يبدو في نظره أن محكمة الاستئناف بتونس قد اهتدت في الواقع إلى حلّ مخطئ، و يتمثل الخطأ في إهمال المحكمة لنقطة أساسية و هي أن النسب في القانون التونسي ليس مجرّد علاقة بيولوجية ، فهو أيضا، و قبل كلّ شيء، علاقة قانونيّة .
و في الواقع ، فإن الأستاذ بوقرة لم يكن أوّل من وجّه هذا النقد لقرار محكمة الاستئناف بتونس موضوع حديثنا بل سبقه لذلك الأستاذ ساسي بن حليمة**.
هذا، و من الجدير بالملاحظة أن محكمة الاستئناف بتونس قد سبق لها أن أكّدت على استقلالية الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب حيث جاء في قرارها المؤرخ في 11 ديسمبر 1967 تحت عــ27457ــدد :*** "... إن القانون ... لم يحصر موضوع الشهادة في نقطة معينة مما يفيد أنه

*- انظر مذكرة الأستاذ المنصف بوقرة : "إثبات نسب ابن الخطيبين في فقه القضاء التونسي"، ص137.
**- انظر أطروحة الأستاذ ساسي بن حليمة المشار إليها آنفا، ص167.
***- انظر مذكرة الأستاذ بوقرة، مرجع سابق، ص168.
أوكل الأمر لاجتهاد المحكمة في استخراج ثبوت النسب أو عدم ثبوته مما ترمي إليه الشهادة بقطع النظر عن ثبوت الزوجية بين الأبوين أم لا" . و تضيف محكمة الاستئناف قائلة : "... إن مجموع هذه الشهادات تفيد إفادة قطعيّة وجود علاقة متينة بين الوالدين تفوق مجرّد المعرفة لما اشتملت عليه من إنفاق متكرّر وإسكان و زيارة متواصلة و تناول الطعام، و من شأن هذه الأشياء أن يترتّب عليها ما يؤول إلى الحمل و بذلك يحصل الإقناع بتزايد المولودين ... من فلان ...".
و خلاصة القول، فقد حاولت بعض المحاكم أن تنهض بدور خلاّق في استنباط حلول تكفل للطفل الطبيعي الاندساس في زمرة الأطفال الشرعيّين، و ذلك بالأخذ بالشهادة كوسيلة مستقلة لإثبات النّسب. و لكن هاته المحاولة لم تدم طويلا، إذ سرعان ما تدخّلت محكمة التعقيب فوضعت حدّا لهذا الاجتهاد و قضت بنقض القرارين الاستئنافيين السابق الإلماع إليهما، و أرست قاعدة مفادها أنه لا أخذ بالشهادة و لا اعتداد بها إذا لم تثبت وجود علاقة شرعية بين والدي الطفل المراد إثبات نسبه. لكن ماذا بشأن الإقرار؟ أفلا يؤخذ به بانفراده إذا لم توجد علاقة شرعية بين والدي الطفل؟ أم أن الإقرار يظل وسيلة مستقلة لإثبات النّسب؟
ب- فقه القضاء التونسي و اعتبار الإقرار وسيلة مستقلّة لإثبات النّسب
بالرجوع إلى الفصل 68 من م.أ.ش فإن الإقرار هو الوسيلة الثانية من وسائل إثبات النسب في القانون التونسي.
و الإقرار الذي يتحدث عنه مشرّعنا هو إقرار الأب. و هو يحيلنا إلى مفهوم الاستلحاق المتعارف

عليه في الفقه الإسلامي بمذهبيه المالكي و الحنفي*. و قد عزا الشراح أسباب تسمية الإقرار بالاستلحاق إلى أن هذه الوسيلة من وسائل إثبات النّسب تتيح للطفل اللّحاق بركب الأبناء الشرعيين، و بالتالي فهي تخفّف من شدّة الحديث النبوي القائل إن الولد للفراش و للعاهر الحجر و تحدّ من وطأته**.
فالإقرار، و الحال ما تقدّم، مخرج يمكن للطفل الطبيعي أن يخرج من خلاله من ضيق الانبتات و النبذ ليرفل بنعيم النّسب و الارتباط بأب شرعي. و من مزايا الإقرار ، أنه يمكن من تدارك أوضاع متباينة من عدم الشرعية . و هذه المزية مرتبطة بطبيعة البنوة الثابتة بالإقرار، ذلك أن الطفل المعترف بنسبه يمكن أن يكون مولودا من زواج ، إلاّ أنه ولد قبل تمام ستة أشهر من حين إبرام الزواج،أو بعد سنة من غيبة الزوج.
و الإقرار هنا يكون عادة ضمنيا و يتجسّم من خلال إحجام الزوج عن المنازعة في نسب الطفل و معاملته له معاملة الأب لابنه الشرعي. و فضلا عن ذلك ، فإن الطفل المعترف بنسبه يمكن أن يكون طفلا مولودا من علاقة خنائية. و في هاته الحالة فإن الأب يتقدّم لدى ضابط الحالة المدنيّة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.tahalabidi-avocat.fr.gd
المدير أ/ طه العبيدي
Admin
المدير أ/ طه العبيدي


عدد الرسائل : 5241
الإسم و اللقب : رجال القانون
نقاط : 5743
تاريخ التسجيل : 19/01/2008

الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي   الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي Emptyالثلاثاء أبريل 19, 2011 11:27 am

ب- تعذر إجراء التحليل الجيني :
قد يتعذر إجراء التحليل الجيني نتيجة لامتناع المدعى عليه، الذي غالبا ما يكون الوالد المزعوم للطفل، من ذلك. و امتناع المدعى عليه من إجراء التحليل الجيني قد يستفاد من تخلفه عن الحضور لدى المحكمة رغم استدعائه لذلك، أو تخلفه المتعمد عن الحضور لدى الخبير المكلف بإجراء التحليل المذكور، أو الحضور مع التمسك بعدم تقديم خلية من خلايا جسمه لإجراء الاختبار عليها.
*- و هي اختصار لعبارات : Acide desoxy ribo nucleique
**- حول تقنية التحليل الجيني: انظر مقال الأستاذ Jean-christophe GALLOUX بعنوان : "L'empreinte génétiques : la preuve parfaite ? J.C.P. 1991.I.3497, p 104 à 110.
و عموما، و مهما كان شكل التعبير عن الامتناع من إجراء التحليل الجيني، فإن السؤال الذي يطرحه هذا الامتناع يتصل بالنتائج التي يمكن ترتيبها عنه. فهل نجرّ الشخص الممتنع قسرا إلى المختبر لأخذ خلية من خلاياه ؟ أم نعتبر امتناعه بمثابة الإقرار بالأبوة ؟
لا شك أن غصب المدعى عليه على تقديم خلية من خلاياه لإخضاعها للتحليل الجني أمر غير ممكن و لا مقبول في القانون التونسي ضرورة أنه يتنافى مع حرمة الفرد التي أقرها الفصل الخامس من دستور البلاد. كما أنه يعد خرقا للقانون عــ92ـدد لسنة 1991 المؤرخ في 25 مارس 1991، المتعلق بنقل و زرع الأعضاء البشرية و الذي أقر حق الشخص في السلامة الجسدية.
و لما كان إكراه المدعى عليه على إعطاء خلية من خلاياه أمرا غير مستساغ و لا مقبول قانونا في تشريعنا، فإن الحل الذي قد يرتئيه البعض لهذه المشكلة يتمثل في اعتبار أن رفض الوالد المزعوم يقوم مقام الإقرار الضمني منه بالأبوة، و من ثمة ، فإن في وسع المحكمة أن تقضي بإثبات الأبوة و إسناد لقب الشخص الرافض لإجراء التحليل الجيني للطفل.
و في الواقع، فإن هذا الحل لم يبق مجرد افتراض بل إن بعض محاكمنا قد كرسته فعلا. حيث اعتبرت المحكمة الابتدائية بصفاقس ضمن حكمها عــ42123ــدد المؤرخ في 25 جوان 1999 أن رفض الوالد المزعوم للطفل إجراء التحليل الجيني يعتبر إقرارا حكميا بالأبوة*، كذلك، و في نفس الاتجاه، أصدرت محكمة الاستئناف بالمنستير قرارها عــ13936ــدد المؤرخ في 12 جويلية 2000**،


*- انظر مذكرة الأستاذة عواطف عبد القادر : مرجع سابق ، الملحق عـ1ـدد.
**- انظر جريدة الصباح ليوم 1 نوفمبر 2000 ، ص5.

و اعتبرت من خلاله أن رفض الوالد المزعوم إجراء التحليل الجيني لا يعدو كونه إقرارا حكميا بالأبوة عملا
بأحكام الفصل 429 من م.ا.ع. تقول محكمة الاستئناف بالمنستير معللة قضاءها الآنف الذكر : "إن رفض المستأنف ضده غير المعلل و المبرر واقعا و قانونا للخضوع للتحليل الجيني … يعد إقرارا بصحة و وجاهة الدعوى". ثم تضيف قائلة :"إن رفض المستأنف ضده لمثل ذلك التحليل و لئن كان من حقه لعدم وجود آلية قانونية صلب قانون 28-10-1998 لحمله على ذلك جبرا فإنه يمنع المستأنفة و المحكمة في نطاق مبدإ المواجهة بين الطرفين من إحراز وسيلة إثبات حازمة و قاطعة في النزاع، و يخول ترتيبا على ذلك للمحكمة استنتاج ما يفرضه القانون من ذلك الموقف ألا و هو الإقرار الحكمي . ذلك أن عدم ترتيب أي أثر قانوني للرفض غير المعلل للاستجابة لمقتضيات القانون يجعل مسألة تطبيق القانون طوع المتقاضي ، و هو ما يتنافى و كنه التشريع و المبادئ العامة للقانون الذي سن ليطبق ، و يفرغ النص من أدواته و آلياته و بلوغ أهدافه ، و ينزع مصلحته في حماية النظام العام العائلي و الاجتماعي ، خاصة و أن الأمر يتعلق بمسألة جد حساسة و هي حق الهوية و الانتساب لعائلة". إن قضاء محكمة الاستئناف الآنف الذكر، و إن كان مستساغا منطقا و منسجما مع روح القانون عــ75ــدد لسنة 1998، إلا أنه يفتقد إلى أساس قانوني صلب. لذلك ، فإن الحل قد يكمن في تنقيح القانون المذكور و التعرض صراحة لمسألة امتناع المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة من إجراء التحليل الجيني، و وضع حل لها . و ذلك بالتنصيص على إمكانية جبر الشخص الممتنع من إعطاء عينة من خلايا جسمه على الانصياع لذلك قسرا، علما و أن هذا الحل قد تبناه المشرع الألماني*، كما تبناه المشرع التونسي بالنسبة الى اجراء تحليل دموي على الشخص الذي يشك في انه كان يسوق سيارة بحالة سكر حيث لا يمكن لهذا الشخص ان يعارض في انتزاع عينة من دمه لتحليلها و التأكد من توفر الحالة الكحولية من عدمه.
*- FRANK (R) : "L'examen biologiques sous contrainte dans le cadre de l'établissement de la filiation en droit allemand" Rev.int.Dr.comp 1995, p 905.

كذلك، يمكن أن يعتبر المشرع أن للمحكمة أن تستنتج ما تراه من موقف المدعى عليه الرافض لإجراء التحاليل الجينية، أي أن تقضي بثبوت البنوة في هذه الصورة على أساس أن السكوت يعد إقرارا حكميا طبق الفصل 429 من م.ا.ع*.
و في انتظار حصول التنقيح المأمول ، فإنه يمكن لمحاكمنا أن تقضي بإثبات الأبوة إذا ما امتنع الوالد المزعوم من إجراء التحليل الجيني و وجد بأوراق القضية ما يفيد أنه قد أقر ضمنيا بأبوته.
و في هذا السياق ، فقد أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس حكمها عــ25863ـدد المؤرخ في 9/11/1999**، و الذي جاء فيه بالخصوص قول المحكمة : " و حيث أنه بتواجد المدعى عليه بالمستشفى زمن الولادة و تكفله بمصاريفها و زواجه فيما بعد بالمدعية تجتمع القرائن و تتوفر الأدلة على كونه الأب الحقيقي للبنت. كما أن امتناعه من إجراء التحاليل قصد التأكد من صحة الدعوى لدليل هو الآخر على كونه الأب الحقيقي للبنت ، و لو كان غير ذلك لعرض نفسه على التحاليل و لما تخلف عن الحضور ...".
و هكذا، فإن الأبوة تثبت بالإقرار أو البينة أو التحليل الجيني ، و هذا الإثبات يحصل عادة في إطار قيام بدعوى إثبات الأبوة.



*- انظر مقال الأستاذ ساسي بن حليمة بعنوان "إثبات البنوة حسب أحكام القانون المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، In mélanges,
Habib AYADI. C.P.U. 2000, p 253.
**- انظر الملحق عـ1ـدد .


المبحث (2) : القيام بدعـوى إثبات الأبوة :
لا يثير القيام بدعوى إثبات الأبوة إشكالا فيما يتعلق بمعرفة المحكمة المختصة حكميا بالنظر، ضرورة أن الفقرة الثانية من الفصل الأول من القانون عــ75ــدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 قد أسندت هذا الاختصاص للمحكمة الابتدائية دون سواها.
كذلك، و بالنسبة إلى الاختصاص الترابي، فإنه ، و في ظل سكوت المشرع عن بيان المحكمة المختصة ترابيا بالنظر، فإن الحل يكمن في إسناد ذلك الاختصاص إلى محكمة المطلوب عملا بالقواعد الإجرائية المتعارف عليها*.
هذا، ويطرح القيام بدعوى إثبات الأبوة سؤالين يتصلان بتحديد أطراف دعوى إثبات الأبوة فقرة (1)، و كذلك مدى قابلية الدعوى المذكورة للسقوط بمرور الزمن من عدمها فقرة (2).
الفقرة (1) : أطراف دعـوى إثبات الأبـوة :
لكل دعوى أطرافها. و أطراف الدعوى هما عادة مدع و مدعى عليه. فمن هو المدعي في دعوى إثبات الأبوة (أ) و من هو المدعى عليه فيها (ب) ؟ ذلك ما نحاول الإجابة عنه لاحقا.
-أ- المدعي في دعـوى إثبات الأبـوة :
يستروح من الفقرة الثانية للفصل الأول من القانون عــ75ــدد لسنة 1998 أن المدعي في دعوى إثبات الأبوة هو الأب أو الأم أو النيابة العمومية. و هكذا، فقد يكون أب الطفل هو المدعي في دعوى إثبات الأبوة.و قيام الأب بالدعوى يفترض أن الأبوة قائمة فعلا بدليل استعمال المشرع لعبارة "الأب". فكأن غاية القيام هنا، هي المصادقة القضائية على اقرار الأب المدعي بأبوته ، و ترتيب نتائج ذلك
*- انظر الفصل 30 من م.م.م.ت.
الاقرار و في مقدمتها اسناد لقبه للطفل و تصحيح الوضعية القانونية على مستوى سجلات الحالة المدنية لهذا الأخير.و هكذا ، فإن قيام الأب بدعوى إثبات الأبوة، يذكرنا ببعض الدعاوى المشابهة كدعوى إثبات الزواج ، أو دعوى إثبات الولادة أو الوفاة. و هي جميعها دعاوى ترفع لتدارك التقصير الحاصل في التصريح بحالات زواج أو ولادة أو وفاة في الإبان ، مما يضطر ضابط الحالة المدنية إلى الامتناع عن التنصيص عليها ضمن دفاتره إلا بعد الإذن له بذلك قضائيا.
هذا، و قد يكون مرد قيام الأب بدعوى إثبات الأبوة، بدل المطالبة بإثبات النسب خيبته في دعوى إثبات النسب نتيجة إقراره بالطابع الخنائي للعلاقة التي ربطت بينه و بين والدة الطفل، أو إدلائه بحكم قاض بإدانته من أجل مواقعة والدة الطفل القاصرة تأييدا لدعوى إثبات النسب.
و بالإضافة إلى الأب ، فإن القيام بدعوى إثبات الأبوة متاح للأم أي لأم الطفل المراد إثبات أبوته و إسناد لقب الأب له. و هكذا، و بتنصيصه على منح صفة القيام للأم، فإن مشرعنا يكون قد تلافى إمكانية رفض دعوى الأم بمقولة أنها تفتقد لصفة القيام في حق ابنها القاصر على غرار ما حصل في بعض قضايا النسب*.
إن منح الأم صفة القيام بدعوى إثبات الأبوة أمر محمود ، ضرورة أن الأم هي أحرص الناس على إسناد لقب عائلي لابنها و توفير عائل له و رفع الشعور بالضيم و الانبتات عنه و عنها في الآن نفسه. و فضلا عن الأب و الام، فإن القيام بدعوى إثبات الأبوة ممكن للنيابة العمومية أيضا، علما و أن فقه القضاء قد أقر بحق النيابة العمومية في القيام بدعاوى الأسرة بوجه عام و بقضايا النسب على وجه التحديد. حيث تضمن القرار التعقيبي عــ319ــدد المؤرخ في 17 جانفي 1961** أن القانون يخول للنيابة العمومية
*- انظر قرار محكمة الاستئناف بسوسة عـ1264ـدد المؤرخ في 28 جانفي 1971، م.ق.ت عـ5ـدد لسنة 1971، ص 36. و كذلك قرار نفس المحكمة عـ2790ـدد المؤرخ في 25 فيفري 1971، م.ق.ت لسنة 1971، ص 646.
**- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1961، القسم المدني،ص 10.
القيام بالدعاوى المتعلقة بحقوق الأسرة لأنها راجعة للنظام العام. كذلك ، جاء بالقرار التعقيبي عــ5575ــدد المؤرخ في 29 أكتوبر 1968* "إن مسألة النسب تهم النظام العام و يسوغ للنيابة العمومية القيام بها من تلقاء نفسها".
هذا، و إن منح النيابة العمومية الحق في القيام بدعوى إثبات الأبوة ، لا يعدو كونه امتدادا لما تضمنه الفصل 251 من م.م.م.ت من أنه "لممثل النيابة العمومية الحق في القيام بالقضايا كلما كانت هناك مصلحة شرعية تهم النظام العام". و لا شك أن هذه المصلحة متوفرة في حالة وجود طفل قاصر فاقد لحقه في الهوية.
و للإشارة، فإن قيام النيابة العمومية بدعوى إثبات الأبوة يكون ناتجا عن حصول العلم لها بوجود طفل مجهول النسب، و يحصل ذلك العلم بطرق شتى كوجود تتبعات جزائية ضد شخص من أجل مواقعة قاصرة طبق الفصل 227 مكرر من م.ج ، أو رفع أحدهم لشكاية أو وشاية تفيد حدوث ولادة خارج إطار الشرعية.
هذا، و من الملفت للنظر حقا إحجام المشرع عن منح الحق في القيام بدعوى إثبات الأبوة للشخص الذي تجاوز سن العشرين. فهذا الشخص لا يحق له إلا القيام بطلب الإذن بإسناد اسم و لقب عائلي له إن كان خاليا من ذلك**. و سنعود إلى الحديث عن هذه المسألة لاحقا عند النظر في مدى خضوع دعوى اثبات الابوة للسقوط بمرور الزمن.
و إجمالا، فإن المدعي في دعوى إثبات الأبوة هو الأب أو الأم أو النيابة العمومية. و لكن على من تقام الدعوى المذكورة ؟

*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1968، القسم المدني ص 96 .
**- انظر الفصل الرابع من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998.
ب- المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة :
لم يكلف المشرع نفسه عناء البحث عن قائمة المدعى عليهم في دعوى إثبات الأبوة.
و لما كانت القاعدة الإجرائية تقتضي أن القيام يقع من ذي صفة على ذي صفة، فإن المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة يفترض فيه أن يكون محرزا على هذه الصفة ، و لو كانت صفة ظنية و افتراضية تستند إلى مجرد الشبهة و الاحتمال.
و الصفة الظنية و الافتراضية تتوفر في شخص الوالد المزعوم للطفل المراد إثبات أبوته. إذ أن القيام ضده لا يتأسس إلا على مجرد الظن بأنه الأب المحتمل للطفل. و لا شك أن هذا الأمر يمثل ثغرة قانونية خطيرة لأنه يفتح الباب أمام المدعين في دعوى إثبات الأبوة ، و خاصة منهم الأم ، للقيام بالدعوى ضد أي كان و لو بنية التنكيل به. لذلك، فقد كان أحرى بمشرعنا أن يمكن الوالد المزعوم و قبل الخوض في الأصل من دحض الادعاء ضده بالأبوة بشتى السبل المقبولة منطقا وقانونا ،كأن يدلي بملف طبي يؤكد عجزه الجنسي وعدم قدرته على الإنجاب ، أو بنتيجة تحليل دموي اجري بمناسبة قضية جناحية مثلا ، تؤكد اختلاف فصيلة دمه عن فصيلة دم الطفل . فيتم بذلك وأد الدعوى قبل ولادتها. وهو الحلّ الذي تبناه المشرع الفرنسي قبل 1993 وكان محقا في تبنيه*.
علما وأنّه في صورة وفاة الأب المزعوم، فإن القيام يبقى جائزا ضدّ ورثته. كذلك ، فإن القيام يكون على ممثل الوالد المزعوم إذا كان هذا الأخير قاصرا، أو اعتراه عارض من عوارض الأهلية كالجنون والسفه ممّا أدى إلى الحجر عليه.


*- انظر الفقرة 3 من الفصل 340 – 1 من المجلة المدنية الفرنسية قبل التنقيح المدخل عليها بمقتضى قانون 8 جانفي 1993.

وفضلا عن الأب المزعوم، فإن القيام بدعوى إثبات الأبوة قد يوجّه ضدّ النيابة العمومية بوصفها ممثلة للهيئة الاجتماعية. فتكون النيابة العمومية مدعى عليها في هاته الصورة،وهي صورة غالبا ما تتصل بقيام الأب بالدعوى رغبة منه في إسناد لقبه للطفل والاعتراف ببنوته . هذا ، وقد يقوم الأب المذكور بالدعوى ضدّ والدة الطفل . ولا نخال أنّ قيامه سيواجه بالرفض شكلا ضرورة أنّ قانون 1998 قد منح للأم صفة القيام بالدعوى في حق ابنها ، ولا نظنّه رافضا منحها صفة المدعى عليه وتمثيل ابنها فيها والدّفاع عنه ،لا سيما إذا كانت مصلحته تقتضي عدم إسناد لقب الأب المزعوم إليه كما لو كان هذا الأخير لا يمت باي صلة للطفل ،و مع ذلك فانه يقوم بدعوى اثبات الأبوة طمعا في الاستفادة من مال الوالدة او مال طفلها ان كان له مال .وللإشارة، فإنّ القيام بدعوى إثبات الأبوة قد يوجه من النيابة العمومية ضدّ والدة الطفل و والده المزعوم مجتمعين ، إذا كانا قد تخلفا عن القيام بالدعوى، رغم عدم اختلافهما في أنّ الطّفل هو ابنهما وقد أنجباه من علاقة سفاح.كذلك فإن المدعى عليه في دعوى إثبات الأبوة قد يكون الأب المزعوم والنيابة العمومية في الآن نفسه إذا كانت الأم هي المدعية. أو الأم والنيابة مجتمعتين ، إذا كان القائم بالدعوى هو الأب.وعموما، فقد أحسن المشرع فعلا بعدم ضبط قائمة المدعى عليهم في دعوى إثبات الأبوة لأنّ الدّخول في التفصيل قد يؤدي إلى التضبيق والتقييد وهو أمر غير محمود غالبا.هذا، ويبقى السؤال الهام بخصوص القيام بدعوى إثبات الأبوّة هوذلك السؤال المتصل بمدى خضوع هذه الدعوى للسقوط بمرور الزمن ؟





الفقرة (2) : سقوط دعوى إثبات الأبوّة بمرور الزّمن :
لم يرد بالقانون عدد 75 لسنة 1998 حكم صريح بشأن ما إذا كانت دعوى إثبات الأبوّة تخضع للسقوط بمرور الزمن من عدمه.ونظريا ، يمكن التفكير في حلّين اثنين لهذه المسألة لكلّ منهما دعائمه ومرتكزا ته. فأما الحلّ الأول، فيتمثل في القول إن دعوى إثبات الأبوة لا تسقط بمرور الزمن (أ) .وأما الحلّ الثاني ، فيتمثل في القول إن الدعوى المذكورة تسقط بمرور الزمن (ب). وسنحاول بسط هذين الحلين تباعا.
-(أ) - دعوى إثبات الأبوّة لا تسقط بمرور الزّمن :
قد يكون للقول بأن دعوى إثبات الأبوة لا تسقط بمرور الزمن ما يبرره.
ومن أهمّ ما يبرر القول المذكور أن دعوى إثبات الأبوة تهم الحالة المدنية للشخص . وبالتالي فهي خارجة عن ميدان النزاعات المالية . و لا يسوغ بأي حال إخضاعها لقواعد السقوط بمرور الزّمن كيفما نظمتها مجلة الالتزامات والعقود.
وإذا كانت القواعد العامة المتصلة بالسقوط بمرور الزمن غير منطبقة ، فإنه لا يجوز للمحكمة المتعهدة بالنظر في دعوى إثبات الأبوة أن تستنبط حلاّ لم يرد به نصّ ، فتقضي بسقوط الدعوى المذكورة بمرور أجل معيّن سواء أطال هذا الأجل أم قصر. فكما أنه لا جريمة بدون نص، فإنه لا سقوط لدعوى إثبات الأبوة بدون نصّ، نظرا لتعلق المسألة بالنظام العام الاجتماعي فضلا عن أن السقوط قد يتسبب في ضياع حق بغير حق.
هذا ، وربما كان لهذه الأفكار انعكاسها على الصعيد التطبيقي بالنسبة إلى قضايا النسب .ذلك أن فقه القضاء التونسي قد استقرّ على القول بأن دعاوى النسب لا تسقط بمرور الزمن ، سواء أتعلق الأمر بنفي النسب أم بإثباته. من ذلك مثلا ما ذهبت إليه محكمة التعقيب في قرارها المدني عـ11027ـدد المؤرخ في 20 نوفمبر 1984 * و الذي تضمن بالخصوص أن "دعاوى نفي النسب تتعلق بالحقوق الشخصية المحضة فلا ينالها التقادم للحق مهما بلغت مدته" . كذلك، و في نفس الاتجاه أصدرت المحكمة العليا قرارها التعقيبي المدني عـ23480ـدد المؤرخ في 13 جوان 1989 ** و الذي جاء في مبدئه "دعوى نفي النسب تتعلق بالحقوق الشخصية المحضة فلا ينالها التقادم مثل الدعاوى الناشئة عن تعمير الذمة التي جاءت بها أحكام الفصلين 384 و 402 " .
و فضلا عمّا تقدم ، و بالنسبة لقضايا إثبات النسب ، فقد أصدرت محكمة التعقيب قرارا تعقيبيا مدنيا تحت عـ73855ـدد مؤرخا في 31-12-1999***، أشارت وقائعه إلى أنّ شخصا قام لدى محكمة البداية بصفاقس عارضا أن والدته كانت متزوجة على العرف الجاري من المدعو…… و أنجبته منه في 16 جانفي 1953 ، لذلك فهو يطلب سماع بينته على ذلك ثم الحكم بثبوت نسبه لوالده المدعو …….فقضت محكمة البداية برفض دعواه ، فاستأنف ذلك الحكم فقررت محكمة الاستئناف نقض الحكم الابتدائي و القضاء بثبوت نسب المستأنف إلى والده …….فتعقب ورثة الأب المزعوم القرار الاستئنافي ناسبين إليه عددا من المطاعن من بينها أن القيام بالدعوى قد جاء متأخرا، الأمر الذي يجعلها قد سقطت بمرور الزمن .فأجابت محكمة التعقيب عن هذا المطعن بقولها :"و حيث أن تمسك المتعقبين بسقوط حق المعقب ضده في القيام بالدعوى فضلا عن كونه أثير لأول مرة لدى هاته المحكمة فان دعوى ثبوت النسب لا يسقط فيها حق القيام بمرور الزمن ".
*- انظر نشرية محكمة التعقيب لسنة 1984، ج2، ص 92.
**- انظر مجلة القضاء و التشريع عـ4ـدد لسنة 1993، ص 27، مع تعليق الأستاذ ساسي بن حليمة.
***- قرار غير منشور ، انظر الملحق عـ2ـدد.

و خلاصة القول، فإن فقه القضاء التونسي يعتبر أن دعاوى النسب نفيا و إثباتا تتعلق بالحقوق الشخصية المحضة التي لا ينالها التقادم ، و ذلك خلافا للدعاوى الناشئة عن تعمير الذمة ، التي تقبل السقوط بمرور الزمن. فإذا اعتمدنا القياس ، فإننا سنخلص إلى استنتاج مفاده أن دعاوى إثبات الأبوة ، التي تتعلق بدورها بالحقوق الشخصية المحضة ، لا تسقط بمرور الزمن . و لكن السؤال يبقى مطروحا بشأن ما إذا كان هذا الحلّ مرضيا و لا تثريب عليه ؟ ذلك ما نحاول التأكد منه من خلال البحث في الرأي القائل بسقوط دعوى إثبات الأبوة بمرور الزمن.
(ب) :دعوى إثبات الأبوّة تخضع للسقوط بمرور الزّمن :
قد يكون للقول بخضوع دعوى إثبات الأبوة للسقوط بمرور الزمن ما يبرره أيضا، ذلك أن القول بخلافه من شأنه أن يؤدي إلى عواقب وخيمة ، ضرورة أن الوالد المزعوم سيبقى مهددا إلى الأبد أي إلى بقية عمره بقضية في إثبات بنوة طفل يدعي أنه من صلبه . و ربما انتقل التهديد إلى ورثته على مرّ السنين *. و لا شك أن ذلك التهديد يتنافى مع الحاجة الماسة إلى استقرار الحالة المدنية للأشخاص و للأسرة و المجتمع على السواء .
كذلك، و على فرض القبول بأن دعوى إثبات الأبوة لا تسقط بمرور الزمن ، فإن إثبات الأبوة قد يغدو أمرا عسيرا أو مستحيلا بتعاقب السنين و تلاشي وسائل الإثبات كوفاة الشهود أو وفاة والدة المدعي أو والده المزعوم أو كلاهما معا .
*- انظر مقال الأستاذ ساسي بن حليمة بعنوان : "إثبات البنوة حسب أحكام القانون المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، مرجع سابق.




و لكن، إذا قبلنا جدلا بأن دعوى إثبات الأبوة تسقط بمرور الزمن ، فإن الإشكال يثور بشأن المدة التي تسقط بها الدعوى المذكورة .
مبدئيا، يمكن التفكير في أن دعوى إثبات الأبوة تسقط ببلوغ الطفل المراد إثبات أبوته سنّ العشرين عاما ، و هذا الحل يستروح من قراءة متكاملة للفصلين الأول و الرابع من القانون عدد 75 لسنة 1998 .
فبالرجوع إلى الفقرة الثانية للفصل الأول من قانون 1998 ، نلاحظ أن المشرع قد حصر قائمة المدعين في دعوى إثبات الأبوة ، كما أشرنا إليه سابقا ، في الأب و الأم و النيابة العمومية .و قد كان في إمكانه لو أراد ذلك أن ينصّ على إمكانية قيام الطفل بعد بلوغه سنّ الرشد بالدعوى المتحدث عنها . و لكنه ،أي المشرع، عمد صلب الفصل الرابع إلى بيان ما يمكن للطفل الذي تجاوز سنّ العشرين أي سنّ الرشد المدني أن يفعله و هو القيام بطلب الإذن بإسناد إسم و لقب عائلي إن كان خاليا من ذلك لا أكثر و لا أقل .
و فضلا عن ذلك، فإن الفصل الأول من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 و الذي يقوم سندا قانونيا لكل دعوى تهدف إلى إثبات الأبوة ، قد تحدث عن إسناد لقب الأب للطفل. فلا يمكن بأي حال أن نتوسع في تأويل النص و نخلع صفة الطفل على شخص تجاوز سنّ الرشد أو ربما بلغ سنّ الكهولة أو الشيخوخة عند قيامه بالدعوى . و أنى لنا أن نتوسع في تأويل نص ، إذا كان هذا النص نصا استثنائيا كالقانون عـ75ـدد لسنة 1998 الذي يعد استثناء لأحكام النسب المنظمة بـ م.أ.ش.
هذا، و قد يدحض البعض الرأي الآنف عرضه ، و ذلك بالتمسك بما تضمنه الفصل السادس من تأكيد على الأثر الرجعي لقانون 1998 . و جوابا عن ذلك نقول : إن إقرار الأثر الرجعي لا يغيّر في شيْء من وضعية الطفل الذي أصبح رشيدا ضرورة أن قانون 1998 لا يسمح له بأن يكون مدعيا في دعوى إثبات الأبوة. وعلى فرض أنّه قد رفع أمره إلى النيابة العمومية لتقوم بالدعوى نيابة عنه ، فإن مآل الدعوى قد يكون الرفض بالنظر إلى أن الشخص المراد إثبات بنوته لم يعد طفلا حين رفعها ، أي أنه لا يتوفر على شرط من شروط القيام المستوحاة من الفصل الأول من قانون 1998 و هو الشرط المتعلق بسن الشخص المراد إثبات بنوتهّ.
و إجمالا ، فإن الحسم بشأن ما إذا كانت دعوى إثبات الأبوة تخضع للسقوط بمرور الزمن من عدمه ليس بالأمر الهين .كذلك، و على فرض القول بأن الدعوى المذكورة تخضع للسقوط بمرور الزمن فإن السؤال يظل قائما بخصوص آجال سقوطها .
لذلك ، و في ظل الغموض القائم و التضارب الواضح بين الفصول 1و4و6 من القانون عدد 75 لسنة 1998، فإنه يستحسن مراجعة القانون المشار إليه ، و التنصيص صلبه على جواز رفع دعوى إثبات الأبوة من قبل الطفل الذي بلغ سنّ الرشد ، و ذلك في أجل معقول من تاريخ بلوغه السنّ المذكورة على غرار ما فعله المشرع الفرنسي حين نصّ ضمن الفصل 340-4 من المجلة المدنية الفرنسية على أنه يمكن للطفل القيام بدعوى إثبات الأبوة في خلال أجل العامين اللاحقين لبلوغه سنّ الرشد إذا لم يتول والده أو والدته أو النيابة العمومية ذلك في غضون عامين من تاريخ ولادته .
و بذلك، فإن سقوط الحق في القيام بدعوى إثبات الأبوة سيحدد ببلوغ الطفل سنّ الاثنين و عشرين عاما ، و هي مدة معقولة تحقق التوازن بين مختلف المصالح المتضاربة .و على العموم فإنه متى رفعت دعوى إثبات الأبوة طبق الصيغ و الشروط التي تضمنها القانون عـ75ـدد لسنة 1998، و قام الدليل على ثبوت الصلة الدموية بين الطفل و والده ، فإن المحكمة تقضي بإثبات الأبوة و إسناد لقب الأب للطفل مع الإذن لضابط الحالة المدنية بإدراج ذلك بدفاتره . فتنقلنا بذلك إلى البحث في آثار إثبات الأبوة.
القسم (2) : آثار إثبات الأبوّة
لم تنصرف غاية المشرع من وراء سنه للقانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998، إلى وضع الأبناء الطبيعيين في منزلة الأبناء الشرعيين . فلو كانت له رغبة في ذلك، لاكتفي حين حديثه عن آثار إثبات الأبوة بالتنصيص على أن الابن الطبيعي الذي ثبتت أبوته نفس الحقوق التي للابن الشرعي و عليه ما عليه من الواجبات ، كما فعل مع الابن بالتبني *.
و من ثمة، فقد جاءت آثار إثبات الأبوة كيفما حددها قانون 1998 مختلفة بعض الاختلاف مع آثار ثبوت النسب أو صدور الحكم القاضي بالتبني ، لا سيما بخصوص مسألة الإرث التي أغفل قانون 1998 الحديث عنها . و بالرجوع إلى القانون عدد 75 لسنة 1998، يمكن حصر آثار إثبات الأبوة في إسناد لقب الأب للطفل ، و منح هذا الأخير الحق في النفقة و الرعاية من ولاية و حضانة ، فضلا عن تحمل الأب المسؤولية المدنية عن أعمال ابنه ، و تطبيق القواعد الخاصة بموانع الزواج المنصوص عليها بالفصول 14و15و16و17 من مجلة الأحوال الشخصية .
فالواضح مما سبق عرضه،أن آثار إثبات الأبوة تنقسم إلى آثار ذات صبغة شخصية ، و آثار ذات صبغة عينية . و لا شك في أن ضرورة البحث في الآثار الآنف ذكرها تتطلب تفريع هذا القسم من دراستنا إلى مبحثين اثنين، يخصص الأول منهما إلى الحديث عن الآثار ذات الصبغة الشخصية لإثبات الأبوة المبحث (1) . في حين يخصص الثاني، لتناول الآثار ذات الصبغة العينية للإثبات المذكور المبحث(2).

* أنظر الفصل 15 من القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1957 ، المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني .
المبحث (1) :الآثار ذات الصبغة الشخصية.
يترتب عن إثبات الأبوة جملة من الآثار ذات الصبغة الشخصية ، في مقدمتها إسناد لقب الأب للطفل فقرة (1). فضلا عن إقرار حق الطفل في الرعاية فقرة (2) .و تطبيق القواعد الخاصة بموانع الزواج الواردة بالفصل الخامس من القانون عدد 75 لسنة 1998 فقرة (3). و سوف نتعرض بالبحث في هذه المسائل تباعا .
الفقرة (1) : إسناد لقب الأب للطفل
رغم ما يكتنف صياغة الفصل الأول من قانون 1998 من غموض ، فإن إسناد لقب الأب للطفل يبقى أثرا من آثار إثبات الأبوة .
هذا و يثير إسناد لقب الأب للطفل مسألتين هامتين ، تتعلق الأولى بالطبيعة القانونية للقب المسند للطفل بمقتضى حكم الأبوة (أ) .في حين تتصل الثانية ، بإدراج اللقب المسند للطفل بمقتضى حكم الأبوة بدفاتر الحالة المدنية (ب) .
أ- الطبيعة القانونية للّقب المسند للطفل بمقتضى الحكم بالأبوة :
يتسم اللقب المسند للطفل بمقتضى الحكم القاضي بإثبات الأبوة بطبيعة خاصة تميزه عن اللقب المسند للطفل بموجب الأمومة أو النسب أو طبقا لأحكام الفصلين 2و4 من القانون عدد 75 لسنة 1998 و تتمثل الخصوصية في طابعه الاختياري .
فلئن كان الطفل مجهول النسب يأخذ لقب والدته وجوبا طبق الفقرة الأولى من الفصل الأول من قانون 1998 التى جاءت في صيغة الوجوب (على الأم …..) ، كما أنّ الطفل المهمل ومجهول النّسب يسند له أيضا إسم ولقب عائلي وجوبا من قبل الولي العمومي، وكذلك يأخذ الطفل الشرعي وجوبا لقب والده بمجرد التصريح بولادته لدى ضابط الحالة المدنية - لئن كان جميع من تقدم ذكرهم يأخذون اللقب العائلي وجوبا ومن غير حاجة إلى اللجوء الى المحاكم ، فإن لقب الأب لا يسند للطفل إلا بالقيام لدى المحكمة بدعوى إثبات الأبوة.
والقيام بالدعوى المذكورة هو قيام اختياري ، ضرورة أن الفقرة الثانية من الفصل الأول من القانون عدد 75 لسنة 1998 قد جاءت متضمنة أنه : "يمكن للأب أو للأم او للنيابة العمومية رفع الأمر إلى المحكمة الإبتدائية المختصة لطلب إسناد لقب الأب للطفل …".
وهكذا ، فانه لا الأب ولا الأم ولا النيابة العمومية ، ملزمون بالقيام بدعوى إثبات الأبوة وطلب إسناد لقب الأب للطفل. ولا جناح عليهم إن لم يفعلوا ذلك . كما لا مجال للتفكير في طلب إلزام الأب أو الأم قضائيا برفع دعوى إثبات الأبوة ، وطلب إسناد لقب الأب للطفل.
هذا ، ولا يقتصر الطابع الإختياري لإسناد لقب الأب للطفل عند هذا الحدّ . بل يمتد لجانب المحكمة التي تبقى حرّة في إسناد لقب الأب للطفل من عدمه ، مع ضرورة التعليل طبعا .
فإذا فرضنا جدلا أن الأم قد رفعت دعوى إثبات الأبوة وطلبت سماع بينتها، فان هذه البينة لا تلزم المحكمة بالتصريح بإثبات الأبوة وإسناد لقب الأب للطفل. بل أن للمحكمة أن تقضي بعدم سماع دعواها ، نظرا لعدم اقتناعها بما أدلى به الشهود.
فالواضح ممّا سبق عرضه ، أن اللقب المسند للطفل في إطار دعوى إثبات الأبوة هو رهن إرادة الأب أو الأم أو النيابة العمومية أو المحكمة أيضا. فهو لا يرقى إلى مرتبة الحقّ. ولعلّ ما يؤكد هذا الاستنتاج اكتفاء المشرع بالحديث عن إسناد لقب الأب للطفل لا عن الحق في إسناد لقب الأب للطفل .
وبالإضافة إلى ما تقدم فإنه يمكن القول أن اللقب المسند للطفل بمقتضى الحكم القاضي بإثبات الأبوة يتسم بصبغته الاحتياطية بحيث أنّه لا يقع اللجوء إليه إلا في صورة تخلف الأم عن إسناد لقبها لطفلها. وهذا القول يستفاد من منطوق الفصل الأول من القانون عدد 75 لسنة 1998 الذي يوحي بأن الأصل هو أن تسند الأم لقبها لطفلها، وبصفة ثانوية واحتياطية فإنها تطلب إسناد لقب الأب للطفل.
وربما كان أجدى بالمشرع أن يجعل من إسناد لقب الأم إلى الطفل الحلّ الاحتياطي الذي يقع اللجوء إليه عند تعذر إسناد لقب الأب للطفل*، فيجعل الفقرة الثانية من الفصل الأول من قانون 1998 ترد في طالع الفصل المذكور في حين تأخذ الفقرة الأولى موضعها. ولو أن هذا الحلّ قد يبقى الطفل بدون هوية على امتداد الفترة التي تسبق الحكم في دعوى إثبات الأبوة.
وإجمالا فإن اللقب المسند للطّفل بمقتضى حكم الأبوّة يتسم بطابعه الاختياري ممّا يجعله قاصرا عن تحقيق تطلعات كلّ طفل إلى التمتع بالحق في الهوية الذي كرّسه قانوننا الداخلي ** وكذلك القانون الدولي من خلال الاتفاقيات والمواثيق التي صادقت عليها بلادنا.
ويبقى السؤال بخصوص اللقب المسند للطفل بمقتضى حكم الأبوة قائما بشأن كيفية إدراج اللقب المذكور يسجل الحالة المدنية.





*- انظر مذكرة الأستاذة عواطف عبد القادر: مرجع سابق، ص 66.
**- انظر الفصل 5 من مجلة حماية الطفل و كذلك اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل التي صادقت عليها تونس بمقتضى القانون عدد 92 لسنة 1991 المؤرخ في 29 نوفمبر 1991 و خاصة فصلها السابع.
-ب- إدراج لقب الأب المسند للطفل ضمن سجلات الحالة المدنية:
جاء بالفصل الثالث من القانون عدد75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 أنّه "يقع إتمام رسوم الولادة وترسيم الألقاب طبقا للإجراءات المنصوص عليها بالقانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرة أوت 1957 والمتعلق بإصدار مجلة الحالة المدنية والنصوص المنقحة له". هذا، وإذا سلمنا بأنّ الحكم الذي يقضي بإسناد لقب الأب للطفل، هو حكم بإصلاح الحالة المدنية للطفل الذي كان مقطوع الصّلة بأبيه ، فإنهّ يجوز القول أنّ الفصل الثالث من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 قد أحالنا على الفصلين 63 و 64 من قانون الحالة المدنية، اللذان وردا ضمن الباب السابع من القانون المذكور آنفا والذي عنوانه :"في إصلاح رسم الحالة المدنية".
وللإشارة، فقد تضمن الفصل 63 من قانون الحالة المدنية أن :"رئيس المحكمة الابتدائية بالمنطقة التي حرر فيها الرسم أو نائبه هو الذي يأذن بإصلاح رسم الحالة المدنية. وإذا لم يصدر الطلب من وكيل الجمهورية فلا بد من إطلاعه عليه …." كما جاء بالفصل 64 من نفس القانون أنه :"يقع توجيه أحكام وقرارات الإصلاح حالا من طرف وكيل الدولة لضابط الحالة المدنية بالمنطقة التي رسم فيها الرسم المصلح ويقع ترسيم نصوص الأحكام بالدفاتر ويلاحظ على ذلك بطرّة الرسم المصلح".
فالمستفاد من الفصلين 63 و64 من قانون الحالة المدنية الآنف عرضهما، أن إتمام رسم ولادة الطفل والتنصيص على ذلك بسجلات الحالة المدنية يقع عمليا على النحو الآتي : فبعد أن تصدر دائرة الأحوال الشخصية بالمحكمة الابتدائية المختصة حكمها القاضي بإسناد لقب الأب للطفل ، فإنّه يقع توجيه الحكم المذكور إلى رئيس المحكمة الذي يتولى الإذن بإصلاح رسم الحالة المدنية للطفل إذا كانت النيابة العمومية هي المدعية في دعوى إثبات الأبوة. وإذا لم تكن النيابة العمومية هي المدعية فإن على رئيس المحكمة أن يطلع وكيل الجمهورية على الحكم القاضي بإسناد لقب الأب للطفل ثم الإذن بعد ذلك بإصلاح رسم الحالة المدنية.
هذا، وبالرجوع إلى الفصل 64 من قانون الحالة المدنية فإنه بعد أن يأذن رئيس المحكمة بإصلاح رسم الحالة المدنية، يقع توجيه الحكم القاضي بإسناد لقب الأب للطفل، إلى وكيل الجمهورية الذي يتولى بدوره ، و في الحال، توجيه الحكم القاضي بإسناد لقب الأب للطفل إلى ضابط الحالة المدنية بالمنطقة التي رسم فيها الرسم المصلح، فيقع بالتالي ترسيم نص الحكم المذكور آنفا، و يلاحظ على ذلك بطرة الرسم المصلح، علما و أن ما يرسم هو منطوق الحكم لا الحكم بأكمله.
و من الجدير بالذكر أن الملاحظة على طرة الرسم المصلح يتولاها ضابط الحالة وجوبا*. و هي تهدف دون شك إلى التنبيه إلى أن الطفل قد وقع إصلاح رسم حالته المدنية ، و لكن قد يكون لها هدف غير معلن وهو تمييز الطفل الذي أسند له لقب الأب بمقتضى الحكم القاضي بإثبات الأبوة ، من الأبناء الشرعيين حتى لا يقع إقحامه ضمن قائمة الورثة في صورة وفاة الأب.
هذا و يترتب على الحكم القاضي بإثبات الأبوة فضلا عن إسناد لقب الأب إلى الطفل ، إعطاء الطفل الحق في الرعاية.
الفقرة (2) الحق في الرعاية :
تضمنت الفقرة الثالثة من الفصل الأول من القانون عدد 75 لسنة 1998 أن " إسناد اللقب يخول للطفل الحق في ... الرعاية من ولاية و حضانة ". فهل يعني ذلك أن للطفل الذي أحرز على حكم قاض


*- انظر الفصل 15 من قانون الحالة المدنية المؤرخ في غرة أوت 1957.
بإثبات الأبوة أن يجمع أمتعته و ينتقل بالسكنى إلى حيث يقيم والده سواء أكان هذا الأخير متزوجا أو غير متزوج ؟ قد نصل إلى الإجابة عن ذلك عبر البحث تباعا في حق الطفل في الحضانة (أ) و حقه في الولاية (ب) .
أ- الحق في الحضانة :
اكتفى المشرع بإقرار حق الطفل الذي اسند له لقب أبيه ، في الحضانة دون مزيد من البيان أو التوضيح .
و لاستجلاء كنه الحق في الحضانة، فإن الضرورة تقتضي منا العودة إلى أحكام مجلة الأحوال الشخصية المنظمة للحضانة للاستئناس بها و النظر فيما إذا كان الحق في الحضانة الذي يخوله إسناد لقب الأب للطفل بمقتضى الحكم القاضي بإثبات الأبوة ، هو نفس الحق في الحضانة الذي يتمتع به الابن الشرعي.
عرّف الفصل 54 من م. أ. ش الحضانة بأنها حفظ الولد في مبيته و القيام بتربيته.
و الحضانة من حقوق الأبوين مادامت الزوجية مستمرة بينهما فإذا انفصمت العلاقة الزوجية و كان الزوجان على قيد الحياة عهدت الحضانة إلي أحدهما أو إلى غيرهما . و على القاضي عند البت في ذلك أن يراعي مصلحة المحضون . و أما بخصوص مصاريف شؤون المحضون فإنها تقام من ماله إن كان له مال و إلا فمن مال أبيه ، و إذا لم يكن للحاضنة مسكنا فعلى الأب إسكانها مع المحضون* .
فإذا كانت الحضانة تخضع عموما إلى الأحكام السالف عرضها، فهل يمكن تطبيق تلك الأحكام على الطفل الذي أسند له لقب أبيه بموجب حكم قاض بإثبات الأبوة ؟

*- انظر الفصول 56 و 57 و 67 من م,أ,ش.
مبدئيا، يمكن الإجابة بنعم. لأنه لا شيء يمنع من اعتبار أن الطفل الذي أسند له لقب أبيه هو في حكم الطفل الذي انفصمت العلاقة بين والديه بطلاق .
فإذا كان هذا الطفل يقيم لدى والدته، فانه يمكن اعتبار أن هذه الوالدة هي حاضنة فعليا له. و الحضانة الفعلية كما نعلم هي الحضانة التي لم يصدر بها حكم قضائي.
فالوالدة الحاضنة فعليا لطفلها يمكنها اللجوء إلى المحكمة للمطالبة بتوفير سكن لها و لمحضونها. كما يمكنها أيضا التخلي عن حضانتها. و في هاته الصورة فإنها تتولى عمليا المطالبة قضائيا في حق ابنها بان يتم إسناد حضانته لوالده.
هذا، و لما كانت مصلحة المحضون هي المعيار الرئيسي في إسناد الحضانة فانه على فرض قيام والدة الطفل بطلب التخلي عن الحضانة أو قيام الأب بطلب إسقاطها عن الوالدة و إسنادها إليه ، فان المحكمة ستقضي طبق ما تتطلبه مصلحة الطفل ، هذه المصلحة التي تتمثل غالبا في إبقائه لدى والدته لا سيما إذا كان صغير السن .
إن الحق في الحضانة الممنوح للطفل الذي اسند له لقب أبيه قد يطرح بعض الصعوبات على الصعيد العملي ذلك انه يستبعد منطقيا أن يؤول الحق المذكور إلى إسناد حضانة الطفل لوالده ، ضرورة أن هذا الوالد قد تكون له عائلة شرعية و في هاته الصورة فانه من شبه المستحيل أن يستقبل الطفل المحكوم بإسناد لقب رب الأسرة إليه بالحفاوة و الترحاب داخل الأسرة الشرعية ، بل الراجح انه سيلقى بالازدراء و الاشمئزاز أو بأسوأ من ذلك. كذلك فانه إذا كان الأب غير متزوج فانه قد يصعب عليه توفير حاضنة خصوصا إذا ما رفضت والدته أن تقوم بشؤون الطفل نظرا لأنه قد أتى من طريق محرم.
و هكذا، فان الحق في الحضانة الذي متع به الطفل المصرح قضائيا بإثبات بنوته ، قد لا يعني له أي شيء ، إذ أن جدواه قد تقتصر على فتح الباب لوالدته لكي تطالب بتوفير سكن تباشر فيه حضانة الطفل أو أن تطالب بالأحرى بمنحة سكن إذا لم يكن لها مسكن لعلمها حق العلم انه لا أحد غيرها يمكنه أن يحنو على طفلها و يرعاه ، نظرا لكونه قد ولد من علاقة سفاح.
هذا، و إضافة إلى الحق في الحضانة فان القانون عدد 75 لسنة 1998 قد منح للطفل الحق في الولاية .
ب- الحق في الولاية** :
اكتفى القانون عدد 75 لسنة 1998 بالتنصيص على أن إسناد لقب الأب للطفل يمنح له الحق في الولاية دون بيان ما إذا كانت للولاية المذكورة طبيعة خاصة تميزها عن الولاية المنظمة صلب مجلة الأحوال الشخصية.
لذلك، فإن ضرورة البحث تستدعي العودة إلى أحكام الولاية كيفما نظمتها مجلة الأحوال الشخصية لاستجلاء ما إذا كانت تلك الأحكام تنطبق على الابن الطبيعي الذي أحرز على لقب أبيه.
هذا، و لم تعرف مجلة الأحوال الشخصية الولاية ، و أما في الاصطلاح الشرعي فهي حقوق ممنوحة للأب أو وصيه أو للحاكم محدودة في التشريع الإسلامي على شخصية الولد و على أملاكه لمعاونته و حمايته حتى يصل إلى سن معينة يسير بنفسه في الحياة** .
و أسباب الولاية حسب مجلة الأحوال الشخصية هي الصغر و الجنون و ضعف العقل و السفه***.


*- حول الولاية بوجه عام : انظر مؤلف السيد علي حسين الفطناسي : من احكام العائلة ، ص 103 و ما بعدها.
**- انظر : السيد عبد الله حسين، "المقارنات التشريعية"، ج1، ص 265.
***- انظر الفصول 153 و 160 و 164 من م.أ.ش.

و أما شروطها فقد تعرض المشرع التونسي إلى هذه الشروط عند تعريفه بالولي ضمن الفصل الثامن من م.أ. ش الذي جاء فيه أن " الولي هو العاصب بالنسب و يجب أن يكون عاقلا ذكرا رشيدا.
و مما تجدر الإشارة إليه أن بعض صلاحيات الولاية أو كلها صارت تمنح إلى الأم الحاضنة بمقتضى التنقيح المدخل على بعض فصول م.أ.ش في 12 جويلية 1993. حيث تضمن الفصل 67 جديد انه " تتمتع الأم في صورة إسناد الحضانة إليها بصلاحيات الولاية فيما يتعلق بسفر المحضون و دراسته و التصرف في حساباته المالية. و يمكن للقاضي أن يسند مشمولات الولاية إلى الأم الحاضنة إذا تعذر على الولي ممارستها أو تعسف فيها أو تهاون في القيام بالواجبات المنجرة عنها على الوجه الاعتيادي ، أو تغيب عن مقره و اصبح مجهول المقر ، أو لأي سبب يضر بمصلحة المحضون".
و هكذا، فإن الأم قد أضحت من أصحاب الولاية .و تنقسم الولاية حسب مجلة الأحوال الشخصية إلى ولاية على النفس وولاية على المال.
فأما الولاية على النفس، فهي تخويل الولي حق إبرام عقد إبرام عقد زواج منظوره المولى عليه و أصحاب هذه الولاية حسب الفصل 8 من م. أ. ش هم العاصبون من نسب كالأب و الجد للأب و الأخ و العم و ابن العم.
و أما الولاية على المال، فهي تخويل الولي حق إنشاء العقود المتعلقة بأموال منظوره.
و قد تناول المشرع التونسي موضوع الولاية على المال ضمن الكتاب العاشر من م. أ. ش. و أصحاب الولاية على المال هم الأب ثم الأم بعد موت الأب و فقد أهليته ثم وصي الأب ، فان لم يوجد أحد من هؤلاء نصب مقدم على القاصر من طرف الحاكم*.

*- انظر الفصلين 154 و 155 من م.أ.ش.
هذا و قد أوردت مجلة الالتزامات و العقود بعض الأحكام الخاصة بالولاية ضمن الفصول 5 إلى 17 منها .
و تزول الولاية ببلوغ الطفل سن العشرين عاما كاملة دون أن يصدر ضده أي حكم في التحجير عليه. و تزول أيضا بترشيد القاصر من قبل الحاكم ترشيدا مقيدا أو مطلقا بعد أن يكون قد تجاوز سن الخامسة عشرة من عمره. كذلك، و كأثر من آثار الولاية فان الوالد يكون مسؤولا نحو ابنه و إزاء الغير إلى ان ينقضي حق الولاية بزوال موجبه. و مسؤوليته هذه هي المسؤولية الوارد بها الفصل 93 مكرر من م. ا. ع غير انه يعفى من هذه المسؤولية إذا ما أسندت حضانة الطفل لوالدته *.
وأخيرا، فإن الولاية تزول بتوفر أي سبب من الأسباب الذي حددها الفصلان 155 و 158 من م.ا.ش. فإذا كانت أحكام الولاية ما تقدم عرضه، فإن تطبيق هذه الأحكام ممكن مبدئيا على صورة الطفل الذي اسند له لقب أبيه بموجب حكم قاض بإثبات الأبوة.
فإذا ما احتفظت والدة الطفل بحضانته ، فإنها ستمارس جزءا من الولاية على منظورها. و ذلك عملا بأحكام الفصلين 60 و 67 من م.ا.ش ، في حين يبقى الجزء الآخر من حق الأب.
و أما في صورة ما إذا تعذر على الأب ممارسة مشمولات الولاية أو تعسف فيها أو تهاون في القيام بالواجبات المنجرة عنها على الوجه الاعتيادي ، فانه يمكن لوالدة الطفل أن ترفع الأمر إلى القاضي و تطلب إسناد مشمولات الولاية إليها .



*- انظر الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من القانون عـ75ـدد لسنة 1998.

و اغلب الظن أن الوالد الذي قد يقبل على مضض إسناد لقبه للطفل سوف لن يتفانى في ممارسة الولاية. لذلك، فان الحق في الولاية الذي اسنده القانون عدد 75 لسنة 1998 للطفل الطبيعي يلوح حقا فضفاضا ، لأنه يبقى مرتبطا بمدى توفر الرغبة الصادقة للوالد في الاعتراف بالطفل و معاملته معاملة الابن الشرعي.
و هكذا، فان إسناد لقب الأب للطفل يمنح لهذا الأخير الحق في الولاية ، كما يرتب أثرا شخصيا إضافيا يتمثل في تطبيق موانع الزواج.
ج- تطبيق موانع الزواج :
جاء بالفصل الخامس من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 أنه : "تنطبق القواعد الخاصة بموانع الزواج المنصوص عليها بالفصول 14 و 15 و 16 و 17 من م.أ.ش، متى تم إثبات الأبوة، على الأطفال المهملين و مجهولي النسب الذين أسندت لهم ألقاب بموجب هذا القانون".
فالواضح من أحكام الفصل المذكور أعلاه أن الطفل الذي صدر حكم يقضي بإثبات أبوته يصير في مرتبة الابن الشرعي بالنسبة إلى والده، في خصوص تطبيق موانع الزواج. و من ثمة، فإنه لا يجوز له حينما يكبر و تنصرف رغبته إلى الزواج أن يعقد على المحرمات بالقرابة و المصاهرة و الرضاع المنطبقة على الأبناء الشرعيين.
هذا ، و لن نتعرض بالشرح إلى موانع الزواج التي نص عليها الفصل الخامس من قانون 1998 لأنه لا حاجة لإطالة الحديث حولها.
و لكن ، ما تجدر الإشارة إليه هو أن القانون عـ75ـدد لسنة 1998 سيمكن من تدارك أوضاع غريبة تبعث على الاشمئزاز و التقزز. و مع ذلك ، فإن حصولها كان واردا، إذ أنه، و قبل صدور القانون المذكور آنفا، لم يكن هنالك أي مانع قانوني يمنع من أن يتزوج الطفل المولود خارج إطار الزواج من البنت الشرعية لوالده، أي من أخته. و هو أمر في منتهى الغرابة و لو أن حصوله ممكن كما تقدم ذكره ضرورة أن الطفل لا يعرف من هو والده الحقيقي لاسيما إذا تكتمت والدته على ذلك.
و هكذا ، فإن إيجاد وضعية قانونية للأطفال الطبيعيين و كشف القناع عنهم قد بدا مفيدا من هذه الناحية ضرورة أنه سيحول دون اختلاط الأنساب و حصول زيجات بين أقارب على الصعيد البيولوجي. و لكن لا صلة تجمعهم على الصعيد القانوني.
و صفوة القول، فإن الحكم القاضي بإثبات الأبوة يرتب جملة من الآثار الشخصية. و قد تقدم الحديث في هذه الآثار. و فضلا عن ذلك، فإن الحكم المذكور يرتب آثارا عينية نخوض في الحديث عنها لاحقا.
المبحث (2) : الآثار ذات الصبغة العينية:
من البديهي أنه بمجرد صدور الحكم القاضي بإثبات الأبوة و اتصال القضاء به، فإن القرابة بين الطفل و والده تصبح في حكم الحقيقة القضائية التي لا تقبل الدحض.
فإذا علمنا أن القرابة تعد حسب تشريعنا الوضعي سببا من أسباب النفقة و الإرث*، فهل أن ثبوت الأبوة معناه أن الطفل الطبيعي الذي ثبتت أبوته سيمتع بهذه الآثار العينية للقرابة ؟ بالرجوع إلى القانون عـ75ـدد لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 نجد أن المشرع قد نص صراحة على منح الطفل الحق في النفقة، في حين أنه التزم الصمت بشأن الحق في الإرث. و قد اختلفت الآراء حول ما إذا كان سكوت المشرع بشأن الإرث يعني أنه لا يعارض في منح الطفل الطبيعي الذي ثبتت أبوته الحق في الإرث، أم أنه لا يعدو كونه رفضا لمنحه الحق المذكور.

*- انظر الفصول 37 و 98 و ما بعده من م.أ.ش.
لكن الراجح أن سكوت المشرع ينطوي على رفض لإعطاء الطفل موضوع حديثنا الحق في الميراث
ضرورة أن منح الحقوق لا يكون بالسكوت عنها و التغاضي عن الإشارة إليها. فالمشرع حينما أراد منح الطفل الذي ثبتت بنوته بعض الحقوق ، فإنه لم يتوان في الإعلان عنها صراحة.
لذلك ، و في نطاق دراستنا للآثار العينية لثبوت الأبوة، فإن بحثنا سيتفرع إلى فقرتين اثنتين تخصص الأولى للنظر في الأثر الإيجابي و هو منح الطفل الحق في النفقة، فقرة (1)، في حين تخصص الثانية للبحث في الأثر السلبي لثبوت الأبوة و هو حرمان الطفل من الحق في الميراث، فقرة (2).
الفقرة 1) : الأثر الإيجابي: منح الطفل الحق في النفقة
تضمنت الفقرة الثالثة من الفصل الأول من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 أن إسناد اللقب يخول للطفل الحق في النفقة دون مزيد من البيان.
و واضح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.tahalabidi-avocat.fr.gd
 
الإبن الطبيعي لنور الدين الزياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خطاب العالم الطبيعي جوزيف بريستلي إلى نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب 1799
» استشارة قانونية عاجلة
» تأجيل الحكم فى دعوى سعد الدين إبراهيم ل 2 أوت 2008
» المقر في القانون التونسي دراسة من إعداد أ/حسن عز الدين دياب
» الحكم بسجن سعد الدين إبراهيم سنتين مع الشغل وكفالة 10 الاف جنيه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: 1-1- بحوث عامة في القانون التونسي :: دورات و رسائل تخرج من المعهد الأعلى للقضاء Mémoires et colloques de l'institut national de la magistrature-
انتقل الى: