شروط القيام بالدعوى في القانون التونسي
يوحي مصطلح النزاع المدني بوجود ادعاء يعتبر منطلق الخصومة ويعبر عنه اصطلاحا بالدعوى ورغم كثرة استخدام المشرعين لمصطلح الدعوى إلا أنّ البعض منهم لم يتول تعريفه وذلك خلافا للبعض الأخر المتمثل في عديد التشريعات المقارنة. فالدعوى لغة تعني الزعم أي القول الذي يحتمل الصدق أو الكذب كما أنها تعني الطلب والتمني. [1]
فالمدلول اللغوي للدعوى يرتكز على عنصري الزعم والطلب وهو مدلول لا يبتعد كثير عن المفهوم الاصطلاحي المعتمد في القانون. ولقد عرفت مجلة الأحكام العدلية الدعوى بالمادة 1613 منها بأنها "طلب إنسان حق على غيره لدى الحاكم". أما فقهاء القانون فقد انقسموا في تعريف الدعوى بين عدّة نظريات هي النظرية الذاتية والنظرية الموضوعية والنظرية التوفيقية.
- فالدعوى حسب النظرية الذاتية ليست سوى الحق في حالة حركية فهذه النظرية تخلط بين الحق والدعوى وهو ما أدى إلى رواج فكرة لا دعوى دون حق [2].
- أمّا النظرية الموضوعية فهي تنفي وجود أي علاقة بين الحق والدعوى وتعتبر أن الدعوى وسيلة قانونية لضمان احترام القانون [3].
- بينما ذهبت النظرية التوفيقية نحو إعطاء مفهوم حديث للدعوى وتعريفها بأنّها القدرة الممنوحة للخواص للتوجه إلى القضاء للحصول على احترام حقوقهم المشروعة [4]. وهذا هو المفهوم الذي تبناه المشرع الفرنسي وكرّسه في الفصل 30 م م م الذي جاء فيه "أنّ الدعوى هي حق صاحب الادعاء في أن يقع سماعه في الأصل من طرف القاضي ليقرّر ما إذا كان ذلك الادعاء وجيها أم لا وبالنسبة للخصم فإنّ الدعوى هي الحق في مناقشة صحة الادعاء" [5].ولقد تعرّضت هذه النظرية للانتقاد باعتبار أن القول بأنّ الدعوى هي الإمكانية القانونية للالتجاء للقضاء لا ينسحب على مدلول الدعوى بل على الحق في رفعها.
وعلى هذا الأساس فإن للدعوى مفهوما ماديا إجرائيا ولا مجرد تصور ذهني فهي تعني الادعاء لدى القضاء. [6]
- وأكدت محكمة التعقيب هذا المفهوم الصحيح للدعوى في قرار صادر عن الدوائر المجتمعة بتاريخ 24 ديسمبر 1982 الذي جاء فيه: "المقصود بالدعوى في العرف القانوني هو الالتجاء للقضاء لتقرير حق أو حمايته [7]". وبهذا المفهوم فإن الدعوى لا تختلف عن الخصومة فالثانية هي امتداد إجرائي للأولى أي أنّ الدعوى بمجرد رفعها تتخذ شكل الخصومة لأنها مرحلة المنازعة والمجادلة بين الطالب والمطلوب.
شروط القيام بالدعوى:
جاء بالفصل 19 م م م ت "حق القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة وأهلية تخولانه حق القيام بطلب ماله من حق ويجب أن تكون للقائم مصلحة في القيام".
1 المصلحة:
يشترط في رافع الدعوى أن تكون له مصلحة في رفعها : ويقال عادة تعبيرا عن هذا المعنى أن لا دعوى بغير مصلحة وأن المصلحة هي مناط الدعوى pas d’intérêt, pas d’action l’intérêt est la mesure de l’action
والمصلحة في هذا المعنى هي المنفعة التي يجنيها المدعي من التجائه إلى القضاء فهي إذن الباعث على رفع الدعوى وهي في نفس الوقت الغاية المقصودة من رفعها [8].وقد عرفت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب المصلحة بأنها: " المنفعة التي ستحصل لصاحبها من تقديم الدعوى أو الطعن أو الدفع بصرف النظر عن مركزه في القضية طالبا كان أو مطلوبا، فالمصلحة هي المنفعة التي يجنيها الطالب من التجائه للقضاء". [9] والمصلحة التي يعتد بها هي المصلحة القانونية ويشترط أن تكون شخصية ومباشرة وأن تكون قائمة وحالة [10]. ولتكون المصلحة قانونية لابد أن تستند إلى حق يحميه القانون ولا يهم أن تكون المنفعة التي ستحصل لصاحبها مادية أو معنوية كثيرة أو قليلة وقد أكدت محكمة التعقيب على أن القيام بالدعوى لا يكون قانونيا إلا إذا كان مبنيا على مصلحة شرعية [11].
ويجب أخيرا أن تكون المصلحة موجودة ويتم تقدير وجودها يوم رفع الدعوى أي أن تكون حالة وقائمة وقت التقاضي (un intérêt né et actuel).
ومن هذا المنظور فإن أحكام الفصل 19 تهم النظام العام وهو الموقف الذي تبناه فقه القضاء فالمصلحة تكون قائمة عند رفع الدعوى وتتواصل حتى الفصل فيها فإذا انتفت أثناء نشر القضية يكون مآل الدعوى الرفض لانعدام المصلحة.
و المصلحة شخصية ومباشرة أي أن يكون القائم بالدعوى هو صاحب الحق الموضوعي أو المركز القانوني المعتدى عليه [12]. أخيرا يجب أن تكون المصلحة قائمة وحالة ويكون ذلك عند رفع الدعوى باعتبار أن المصلحة شرط من شروط قبولها إذ جاء بالقرار التعقيبي عدد 21401 الصادر في 14 فيفري 1990 "القيام بالدعوى المدنية من حق كل من لحقه شخصيا ضرر بشرط أن يكون الضرر نشأ مباشرة عن الجريمة ويمكن القيام بها في آن واحد مع الدعوى العمومية أو بانفرادها لدى المحكمة المدنية وفي هذه الصورة يتوقف النظر فيها إلى أن يقضي بوجه بات في الدعوى العمومية التي قضت بإثارتها" [13]. ويؤخذ شرط المصلحة على إطلاقه فينصرف إلى حق القيام لدى القضاء في شموليته دعوى وطعن ودفع [14] وهو ما أقرته محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في القرار سالف الذكر أعلاه.
2 الصفة:
يجب على القاضي حتى يقبل القيام بالدعوى أن يتحقق من أن المدعي تتوفر فيه الصفة التي تخوّل له القيام وأن المدعى عليه أيضا له صفة في رفع الدعوى ضده [15]. فشرط الصفة يجب أن يتوفر في الطالب والمطلوب أي أن تقام الدعوى من ذي صفة على ذي صفة [16].
ويقصد بالصفة أن يكون صاحب الحق الموضوعي هو القائم بالدعوى. إذ أن القيام من قبل شخص لا صفة له لا يمكن تصحيحه فيما بعد بحضور صاحب الصفة ذلك أن القيام باطل من أساسه فقد اعتبرت محكمة التعقيب في هذا الشأن [17] أن "القائم بطلب ما لغيره من حق عليه إثبات صفته وإلا رفضت دعواه وعلى المحكمة أن تتبنى هذا الإجراء من تلقاء نفسها وإلا فإن حكمها يكون مستهدفا للنقض.
وقد طرح الفقهاء مشكل استقلالية شرط الصفة عن شرط المصلحة فانقسموا إلى اتجاهين يرى اتجاه أول أن لا فرق بين الصفة والمصلحة وأن وجود الشرط الأول يغني عن وجود الشرط الثاني بينما يرى الاتجاه الثاني أن كلا الشرطين مستقل عن الآخر ومن اللازم أن يتوفرا معا في ذات الوقت لقبول الدعوى أو الطعن وهو الموقف الأسلم فلا يعقل مثلا قبول دعوى الطلاق للضرر المرفوعة من دائني الزوجة مثلا الذي يأملون في الحصول على غرامات لفائدتها تمكنهم من استخلاص مالهم من ديون بذمتها فلئن كانت المصلحة موجودة إلا أن الصفة غير موجودة في جانب الدائنين ويبقى قبول دعوى الطلاق موقوفا على طلب الزوج دون سواه لأن الصفة لا تتوفر إلا فيه.
3 الأهلية :
والأهلية[18] لغة هي الجدارة والكفاءة لأمر من الأمور وتعني في الاصطلاح القانوني قدرة الشخص على تحمل الالتزامات وعلى اكتساب الحقوق وممارستها. وقد تعرض المشرّع للأهلية بالفصل 3 من م إ ع فجعل الأصل هو الأهلية إذ جاء في الفصل المذكور "أن كل شخص أهل للإلزام والالتزام ما لم يصرح القانون بخلافه".
ويتميز شرط الأهلية عن المصلحة والصفة بشيء من المرونة إذ أن الفصل 19م م م ت أجاز للقاصر المميز القيام بنفسه دون وساطة المقدم في المادة الاستعجالية إذا كان هناك خطر ملم. أما مبررات هذا الاستثناء فهي واضحة وجلية إذ أن القضاء الاستعجالي يصدر أحكام وقتية لا تأثير لها على أصل النزاع [19] فأصل الحق يبقى دائما سليما.
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن القاصر الذي تجاوز السابعة عشرة من عمره يتم ترشيده بالزواج بحكم القانون [20] ويعتبر ذا أهلية فيما يتعلق بحالته الشخصية ومعاملاته المدنية والتجارية وبالتالي تتوفر فيه أهلية القيام على معنى الفصل 19 م م م ت. هذا من ناحية كما أن هذا النص لا يوجب توفر الأهلية عند القيام ـ خلافا لما هي الحال بالنسبة للمصلحة والصفة ـ بل أجاز صراحة إمكانية تلافي هذا الخلل أثناء نشر القضية إذا كان شرط الأهلية المقيدة فقط هو المختل [21].
وأما المبرر الذي يفسر المرونة التي عامل بها المشرع شرط الأهلية فلأنها لا تعتبر شرط صحة للقيام وإنما شرط لصحة انعقاد الخصومة وشرط لصحة الطلب القضائي لا غير ولهذا الاعتبار ليس من الضروري أن يتوفر هذا الشرط عند القيام بل يكفي أن يحصل أثناء النشر وبداية من تاريخ حصوله لاحقا تنعقد آنذاك الخصومة ويصح النظر في الطلبات المعروضة من الطرفين.
فالصغير غير المميز أو المجنون لا يمكنه القيام لدى القضاء إلا بواسطة وليه ولا يمكن تصور تطبيق الفقرة الرابعة من الفصل 19 م م م ت بالنسبة لأصحاب الأهلية المنعدمة باعتبار هذه الفقرة تهم من له أهلية مقيدة فحسب.
فالأشخاص الذين لهم أهلية مقيدة مكنهم الفصل 19 م م م ت من القيام فلم يشترط الفصل المذكور الأهلية عند القيام وذلك خلافا لشرطي المصلحة والصفة الواجب توفرهم عند القيام فأجاز المشرّع صراحة إمكانية تلافي الخلل المتعلق بالأهلية المقيدة أثناء نشر القضية، إذ جاء في نهاية الفصل 19 م م م ت " "يمكن قبول القيام من طرف القاصر المميز" أي أن الأمر متروك للسلطة التقديرية ولاجتهاد المحكمة.
________________________________________
الهوامش
[1] ) عبد الله الأحمدي، القاضي والإثبات في النزاع المدني.دار أوربيس. 1991، ص 25-26
[2] ) انظر حول هذه النظرية ونقدها: -GLASSON)E(, TISSIER(A(, et MOREL.)R) : Traité théorique et pratique d’organisation judicaire, de compétence et de procédure civile, 3ème édition Sirey 1925 – 1936. T.1.P423. -MOTULSDY HENRI : Ecrits, édition Dalloz 1973. p88 -DEMELOMBRE : Cours de code NAPOLEON, CT.IX.T.IX. N°. 338
3] ) انظر حول هذه النظرية: - VINCENT(J) et GUINCHARD(S): Procédure civile, Dalloz 20ème édition. N°.18
[4] ) انظر حول هذه النظرية: -SOLUS(H) et PERROTE(R) : Droit judiciaire privé, T.I édition Sirey 1961. N°94. p .95 -VINCENT(J) et GUINCHARD(S) : Procédure civile, Dalloz 20ème édition. N°.18
[5] (Gérard Couchez – Procédure civile –12ème édition Armand Colin – 2002.p15.
[6] ) الأحمدي، مرجع سابق، ص 34.
[7] ) قرار عدد 32-32 النشرية قسم المدني – ج4، ص 115.
[8] ) أحمد أبو الوفا، المرافعات المدنية والتجارية 1970، ص.193 ـ 194
[9] ) قرار الدوائر المجتمعة عدد 31 مؤرخ في 10/12/1991.
[10] ) أبو الوفا، مرجع سابق، ص195
[11]) القرار عدد 4433 مؤرخ في 13/10/1966 نشرية ص 42.
[12]) وذلك باستثناء الدعوى غير المباشرة المنصوص عليها بالفصل 306 م أ ع.
[13]) نشرية محكمة التعقيب لسنة 1991، ص.32.
[14]) انظر القرار التعقيبي المدني عدد 463 مؤرخ في 13 جانفي 1960 نشرية ص 68
[15] ) نور الدين الغزواني،محاضرات في قانون الإجراءات المدنية. لطلبة السنة الرابعة شعبة قضائية. كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، ص128.
[16] ) أبو الوفا ،مرجع سابق، ص 205 ـ 206
[17] ) قرار تعقيبي مدني عدد 26367 صادر بتاريخ 23/8/1978.
[18] ) أنظر حول أهلية التقاضي بصفة عامة، الرئيس محمود النابلي، أهلية القيام لدى المحاكم. جويلية 1963. ص 28.
[19] خالد المبروك، ملتقى القضاء الاستعجالي، نوفمبر 1992.
[20] ) الفصل 153 م أ ش بعد تنقيحه بقانون 12/7/1993.
[21]) وهذا الاستثناء لا يكون عاملا إلا إذا كان الأمر متعلقا بالأهلية المقيدة ولذا وجب تحديد الأشخاص الذين لهم أهلية مقيدة. ولا مناص هنا من الرجوع إلى أحكام الفصل 6 من مجلة الالتزامات والعقود الذي ورد فيه ما يلي ،"للأشخاص الآتي بيانهم أهلية مقيدة وهم ،ـ الصغير الذي عمره بين الثالث عشرة والعشرين سنة كاملة إذا عقد بدون مشاركة أبيه أو وليه.ـ والمحجور عليهم لضعف عقولهم أو لسفه تصرفاتهم إذا لم يشاركهم مقدموهم في العقود التي يقتضي القانون مشاركتهم فيها.ـ والمحجور عليهم لتفليسهم.ـ وكذلك كل من يمنع عليه القانون عقدا من العقود"